دراسات

سيادة العراق وملف الكهرباء الربط مع دول الخليج ومشروع الشام الجديد

بواسطة
تحميل نسخة PDF

مقدمة:

يسعى العراق جاهداً لإعادة تشكيل نفسه كدولة مستقلة ذات هيبة بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية، و قد وضعت حكومة الكاظمي مسألة الهيبة والسيادة على رأس أولوياتها إلا أن ملفات عديدة و متشابكة تشد العراق نحو مجموعة من الدول تجعلها تتدخل في قراراته وأرضه وتمارس ضغوطات واسعة يأتي العراق وابناءه في نهاية اهتماماتها، و أبرز هذه الملفات هو ملف كهرباء العراق الذي بات يشكل أحد أبرز الأعباء السياسية والاقتصادية -في بلد يمتلك موارد ضخمة من الطاقة- لدرجة تحوله إلى خطر قومي لا يقل عن الأخطار الأخرى التي تواجه العراق.

في تجربة مماثلة لما حصل في العراق واجه لبنان أزمة كهرباء بعد الحرب الأهلية خصص لها جزءً كبيراً من موارده، وارتكزت الجهود الحكومية على تطبيق برامج صيانة وإصلاح وتعاقد كلفت الخزينة مليارات الدولارات، في النتيجة يمتلك لبنان أحد أسوأ شبكات الكهرباء في المنطقة ويعتبر الإنفاق على قطاع الكهرباء أحد أهم أسباب ارتفاع الدين العام للدولة التي أعلنت في أذار-مارس 2020 عجزها عن أداء خدمة الدين. 

قد لا يكون العراق بعيداً عما حصل في لبنان إلا بالوقت،  فالملف الذي أنفقت عليه مليارات الدولارات تحول إلى منطقة تجاذبات سياسية داخلية و إقليمية وأحد أهم أدوات الضغط السياسي على العراق الذي ترتفع ديونه لتصل إلى قرابة 90% من الناتج المحلي الإجمالي.

يسعى العراق لإطلاق برنامج يجعل الاستقلال في مجال الطاقة أحد أهم أولوياته ويضعه في محيطه الإقليمي كدولة ذات سيادة ونفوذ، وفي سبيل ذلك يتم طرح مجموعة من المقترحات أبرزها الربط مع الشبكة الخليجية وتنويع مصادر الطاقة عبر الاعتماد على الموارد المتجددة وتقليل الهدر من الغاز العراقي المحروق. 

لقد شهدت تحركات رئيس الحكومة واللقاءات الدولية والإقليمية التي قام بها الكاظمي اهتماماً ملحوظاً بملف الكهرباء حيث تم توقيع عقود مع شركات أميركية أثناء الزيارة لواشنطن، وطرح الرئيس الفرنسي موضوع انشاء محطة نووية، كما أكد وزير خارجية المملكة العربية السعودية أثناء تواجده في بغداد على ضرورة الإسراع في مشروع الربط مع دول الخليج، يأتي هذا تزامناً مع سعي مصر إلى تعزيز تعاونها مع العراق في مجال الطاقة عبر مشروع الشام الجديد، في الوقت الذي تكافح فيه إيران بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على مكتسباتها في ملف الطاقة.

ترصد هذه الورقة مستجدات مشكلة الكهرباء في العراق والحلول المطروحة من قبل الفاعلين الإقليميين والدوليين والانعكاسات على قضية السيادة العراقية، وتضع ملف الكهرباء في سياق سيناريو استمرار الأزمة الراهنة مقارنة بملف الكهرباء في لبنان وكذلك سيناريو حل الأزمة و تموضعات اللاعبين الرئيسيين و الفوائد و الأضرار التي ستنعكس على العراق في ظل هذا السيناريو.

أولاً: مشكلة الكهرباء في العراق: الإنتاج، النقل، التوزيع والفساد

تعتبر مشكلة الكهرباء في العراق مشكلة معقدة نسبياً تتجاوز مسألة إنتاج الطاقة في البلاد لتتداخل فيها عوامل تتعلق بالنقل و التوزيع -و بالتالي البنى التحتية للشبكة الكهربائية- إضافة لقضايا الجباية، فعلى الرغم من أن الإنتاج الحالي من الكهرباء لا يغطي المطلوب فإن الفاقد يفوق 50% من إجمالي المنتج و هي نسبة مرتفعة للغاية مقارنة بأي بلد آخر، فمتوسط الفاقد في إجمال دول العالم لا يتجاوز 8.5%. و يزيد المشكلة تعقيداً الكلفة المالية المرتفعة لعملية الإنتاج والتي تستهلك جزءً من موارد الموازنة تخصص للصيانة و التطوير و يستورد من خلالها الغاز من إيران، وفي النتيجة تعود على المواطن العراقي بضعف في ساعات الإمداد بالكهرباء وعلى الخزينة بموارد ضعيفة.

هكذا نحن أمام مشاكل تقنية تمتد من الانتاج، النقل والتوزيع، مدخلات انتاج الطاقة الكهربائية و كذلك مشكلة في تحصيل الرسوم، هذا هو الجزء البارز والظاهر في مشكلة الكهرباء العراقية إلا أن ما خلف الأكمة أكثر تعقيداً حيث تتوسع المشكلة لتشمل جوانب إدارية و أخرى سياسية، يبدو الفساد أحد السمات المرافقة لهذا الملف و يستفيد من هذا ملف الطاقة عموماً وملف الكهرباء على وجه الخصوص فئات وجماعات مختلفة داخل وخارج العراق،  كما يصب الأمر في النهاية مالياً في صالح إيران كونها تبيع الغاز للعراق و كذلك تورد له جزءً كبيراً من الطاقة الكهربائية عبر خطوط رئيسية مما يتيح لها مزيداً من التغلغل والارتباط عبر هذا الملف الحيوي الذي يسمح لها بالضغط على العراقيين لتحقيق مصالح اقتصادية وأخرى سياسية.

توسع انتاج الطاقة الكهربائية بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة حيث بلغ المعروض من الطاقة حتى نهاية العام 2018 مايزيد عن 15 غيغاوات ثم ارتفع ليقارب 19غيغا، إلا أنه على جانب أخر يتزايد الطلب على الطاقة ليصل إلى أكثر من 23 غيغاوات في 2019 مع توقع وصوله إلى أكثر من 26 غيغا وات في العام 2020 ( الشكل رقم1).

المصدر: إعداد الباحث بالاستناد إلى بيانات وزارة الكهرباء العراقية.

وعلى الرغم من تزايد الإنتاج بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة نتيجة جهود حكومية لتقليص الفجوة بين العرض والطلب فإن مشكلة أخرى أخرى تتعلق بضعف شبكة التوزيع والنقل وكذلك قضايا حوكمة قطاع الطاقة والرقابة عليه تجعل العراق يفقد نصف هذه الطاقة المنتجة حيث يتوقع أن العرض الفعلي للطاقة لا يتجاوز 8غيغا وات.

يعتمد العراق بالدرجة الرئيسية على الغاز كمدخل من أجل انتاج الطاقة الكهربائية، ورغم أنه بلد نفطي ويحتوي على عدة حقول غاز إلا أن مجموع ما يتم احراقه سنوياً يكفي لتشغيل محطات الكهرباء لسنتين على أقل تقدير كما يقل الاعتماد على الموارد المتجددة رغم توافر رؤوس الأموال والخبرات لهذه العملية ليعتمد العراق بالنتيجة على استيراد جزء من احتياجاته ومنح استثمارات أخرى لعدة مؤسسات و شركات خاصة من أجل تشغيل محطات إنتاج على أراضيه (الشكل رقم2).

المصدر: إعداد الباحث بالاستناد إلى بيانات وزارة الكهرباء العراقية

ومن الملاحظ أن الطاقة الفعلية للإنتاج لا يتم استثمارها بالكامل (الشكل رقم3) حيث نستطيع أن نلاحظ أن الإنتاج الفعلي لمحطات الغاز مثلاً بالكاد يصل إلى 6000 ميغاوات على الرغم من أن الطاقة الإنتاجية الاسمية للمحطات تفوق 13 ألفاً مما يعني استخدام فعلي يقل عن 50% وهو رقم استثماري ضعيف لتشغيل المحطات يعطي دلالة على ضعف الكفاءة الإنتاجية ووجود هدر عالي في الموارد.

المصدر: التقرير السنوي لوزارة الكهرباء العراقية 2018

كما نلاحظ أن الفاقد في الكهرباء العراقية وصل في العام 2018 بالمتوسط في مجمل المحافظات إلى 58% و هي نسبة مرتفعة للغاية مقارنة بدول أخرى و بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 8% تقريباً ( الشكل رقم 4) وقد كانت اعلى نسبة فقدان في محافظة صلاح الدين 81% و محافظة بغداد 75% و أقل نسبة ضياع ديالى و النجف بـ37%.

المصدر: إعداد الباحث بالاستناد إلى قاعدة بيانات البنك الدولي

وفي ظل الظروف الراهنة يصعب الحكم على مصدر الخلل الحقيقي وراء هذا الكم الهائل من الهدر، فحوكمة قطاع الكهرباء العراقي ضعيفة للغاية، وهناك تدخلات سياسية  واضحة في الملف، إلا أن ما يجمع عليه المتابعين للملف أن وراء هذا الهدر الكبير في عمليات الإنتاج والنقل والتوزيع ملفات فساد ضخمة تصب في صالح جماعات وأفراد عراقيين قبل كل شيء. فلقد تم إيقاف وزير الكهرباء العراقي من قبل حكومة الكاظمي كما وجه مسؤولون عراقيون تهم فساد لكبار الموظفين في الوزارة حتى تم وصفها “بالبقرة الحلوب” على حد تعبير أحد النواب، ويضاف إلى ذلك تعيين الموظفين الوهمي والبطالة المقنعة في الوزارة و المحسوبيات في عمليات الجباية.

ثانياً: استيراد الطاقة والاستثمارات الخاصة في مجال الكهرباء: تنافس دولي و إقليمي بغطاء محلي

تغذي الطاقة المستوردة من العراق إضافة للاستثمارات ما يزيد عن 20% من إجمالي الإنتاج ( الشكل 5) وقد كان العراق يستورد الطاقة من سورية و تركيا علاوة على إيران ولكن الخطوط من سورية و تركيا متوقفة حالياً و لا تعمل سوى الخطوط الإيرانية ( الشكل رقم6).

ونلاحظ أن العراق استورد عبر خط خانقين الإيراني ما يزيد عن مليونين ميغاوات|ساعي في العام 2015 ثم انخفض المستورد عبر هذا الخط إلى أقل من مليون ميغاوات|ساعي في 2016 وما بعده،  كذلك انخفض المستورد عبر خط عمارة القادم من إيران من قرابة مليون و نصف ميغاوات|ساعي إلى أقل من مليون ميغاوات|ساعي فيما حافظت الخطوط الأخرى على طاقتها السنوية تقريباً، ويعود هذا الانخفاض للتحسن النسبي في عمليات الإنتاج داخل العراق والاعتماد على البوارج و الاستثمار داخل العراق.

كما استورد العراق عام 2010 كمية تزيد عن مليون ميغاوات ساعي من تركيا عبر خط سلوبي لتنخفض إلى قرابة 40ألفاً في 2011 ثم تصبح صفراً في السنوات اللاحقة.

المصدر: بالاستناد إلى بيانات وزارة الكهرباء

علاوة على الاستيراد المباشر للكهرباء من إيران فإن العراق يستورد جزء كبيراً من الغاز اللازم للمحطات الكهربائية الداخلية من إيران بكميات يومية تصل إلى 28 مليون متر مكعب عام 2019 و يتوقع أنها ارتفعت إلى أكثر من 32 مليون متر مكعب يومياً عام 2020 نتيجة تزايد الإنتاج ( الشكل رقم 7).

المصدر: بالاستناد إلى بيانات وزارة النفط العراقية و تقارير منظمة الطاقة العالمية

تعتبر أكبر محطة مستثمرة في العراق هي محطة بسماية التي تدار من قبل مجموعة ماس القابضة وتؤمن هذه المحطة 80% من احتياجات بغداد من الطاقة الكهربائية وتسعى المجموعة لتطوير هذه المحطة بالتعاون مع شركات أجنبية أبرزها جنرال الكتريك الأميركية والموجودة بقوة و كثافة في قطاع الطاقة العراقي كأحد أبرز شركات القطع وبمنافسة مع سينمنس الألمانية، وكذلك (أ بي بي) الألمانية وشركة (سي إم أي) البلجيكية وشركة (ألتسوم) الفرنسية وتدير الشركة ذاتها ( ماس القابضة) عدة محطات إنتاج أخرى كمحطة أربيل التي تبلغ طاقتها 1500 ميغا وات إضافة لمحطتي دهوك و السليمانية، كما تدير الشركة مصانع للحديد والاسمنت.

كذلك تأتي مجموعة كار التي أنشأت في كردستان العراق و تتمتع بدعم واسع من حكومته لتدير أحد أبرز المحطات الاستثمارية في العراق وهي محطة خورمالة بطاقة تصل إلى 1000 ميغاوات وتتحالف المجموعة مع شركة سيمنز الألمانية لتطوير و تشغيل المحطة، كما تدير مجموعة كار حقل نفط خورمالة ومصفاة نفط إضافة لمشاريع هندسية واستثمارية واسعة داخل العراق وخارجهو تزود محطة طاقة خورمالة العراق بأكثر من 3 مليون ميغا واط ساعي، كذلك تسعى المجموعة لتطوير محطة في منطقة الرميلة في البصرة و كذلك محطات أخرى.

كذلك تزود محطة الشعيبة- التي تعد أحد أقدم الاستثمارات من بين المحطات الاستثمارية- العراق بما يقرب من 150 ميغا واط وهي محطة صغيرة نسبياً ويعود إنشاؤها لشركة سعودية مقرها الإمارات تعتبر هي المستثمر الرئيسي فيها.

الجدول رقم (1) أبرز المحطات الكهربائية المستثمرة من قبل القطاع الخاص في العراق
التوقعات المستقبليةمصدر التجهيزات الرئيسيةالشركة المشغلةالأهميةالطاقة (ميغاوات)المحطة
رفع طاقتها إلى 4500 ميغا واتجنرال إلكترك الأميركية و شركات أخرىمجموعة ماستؤمن الجزء الأكبر من كهرباء بغداد3500بسماية
بيع الطاقة لمناطق مجاورةجنرال إلكترك الأميركية و شركات أخرىمجموعة ماسالجزء الأكبر من كهرباء أربيل1500أربيل
بيع الطاقة لمناطق مجاورةجنرال إلكترك الأميركية و شركات أخرىمجموعة ماستغطي جزء كبير من احتياجات إقليم كردستان1500السليمانية
بيع الطاقة لمناطق مجاورةجنرال إلكترك الأميركية و شركات أخرىمجموعة ماستغطي جزء كبير من احتياجات إقليم كردستان1000دهوك
التوسع بمشروع ضخم لإنتاج وتوزيع الكهرباء سيمنز الألمانية و شركات أخرىمجموعة كارتساهم في تغطية مناطق مختلفة و كردستان بشكل أساسي1000خورمالة
خلافات مع المجلس المحلي في البصرةمجموعة الجميح: سعودية – امارتيةتساهم في تغطية جزء من احتياجات البصرة150الشعيبة
التوسع في هذا النظام في ظل الظروف الراهنةمستثمرين أفراد و مؤسساتتساعد على سد حاجة جزء كبيرمحطات و مكنات ديزل منوعة
المصدر: مواقع المؤسسات الخاصة، وزارة الكهرباء العراقية و تقارير ميدانية.

ثالثاً: مستقبل ملف الكهرباء العراقي في ظل الظروف الراهنة: هل يسير العراق على خطى لبنان؟

ينفق العراق على ملف الطاقة ما يزيد عن 28 ترليون دينار عراقي (24مليار دولار) بشكل سنوي، تتضمن هذه النفقات مشترياته من الطاقة  ونفقات الاستثمار علاوة على مصاريف عدد كبير من العاملين، وتبلغ المخصصات السنوية لملف الكهرباء ما يزيد عن 10 ترليون دينار عراقي (8.4 مليار دولار) فيما لا تزيد كمية الطاقة الكهربائية المباعة عن 1.6 ترليون دينار بنسبة جباية 50%، هذا يعني أن العراق يتكبد سنوياً (بين 5 إلى 7 مليار دولار بشكل مباشر) وبالتالي لو تحسن الوضع فسيرتفع متوسط دخل المواطن العراقي السنوي (200 دولاراً على الأقل) الأمر لن ينعكس على الوفر المباشر فقط بل سيحسن من إنتاجية الصناعة والتجارة والخدمات في عموم البلاد وكذلك سيولد مليارات الدولارات في قطاعات مختلفة ولسنوات ما بعد حل هذه المعضلة، وتشير التقديرات النهائية أن العراق يمكن أن يحقق مكاسب تصل إلى 40 مليار دولار سنوياً في حال اصلاح قطاع الطاقة تأتي على شكل وفورات مباشرة و غير مباشرة مما ينعكس بأكثر من (1000 دولار) على متوسط دخل الفرد.

لا يعتبر ملف الكهرباء ملفاً اقتصادياً فحسب، بل هو أحد أبرز ملفات السياسة الداخلية و الخارجية العراقية حيث تهيمن إيران على جزء واسع من قطاع الكهرباء العراقية يصل إلى 50% حيث تورد 5% من الطاقة الكهربائية لمجمل الأراضي العراقية و تبيع الغاز لتشغيل ما يصل إلى 40% من المحطات تقريباً ويدفع العراق سنوياً بين 2.5 إلى 3 مليار دولار ثمناً للغاز الإيراني و يعتقد البعض أن الثمن مرتفع أكثر من أسعار السوق و بأن المحسوبين على إيران في العراق يدافعون عن العقود و الثمن وأهمية الأمر، ويتيح هذا الملف لإيران تغلغلاً في الملفات العراقية المختلفة، فالكهرباء هي ورقة الضغط الأبرز على الجميع، علاوة على ذلك يحصل العراق على استثناء من العقوبات الأميركية على إيران لدواعي استيراد الغاز و النفط والكهرباء مما يتيح لإيران والصول إلى موارد العراق المالية والعينية، و بالملخص نستطيع القول أن ملف الكهرباء العراقي يعتبر أحد أهم أدوات التغلغل الإيراني داخل العراق كمؤسسات ومجتمع وورقة ضغط.

لقد تكبد العراق ما يزيد عن 50 مليار دولار كلفة لعمليات صيانة وتطوير الشبكة منذ عام 2003 وحتى اليوم ولكن معظم هذه الجهود بائت بالفشل رغم إمكانيات العراق الضخمة في مجال الطاقة والموارد، ويتوقع أن فشل عمليات تطوير ملف الطاقة هو أحد المسائل التي عارضته إيران بشكل قوي عبر الموالين لها في السلطة حيث أن استقلال ملف الطاقة سيسهم بالتأكيد في استقلال العراق.

لقد سعت عدة دول على رأسها ألمانيا، فرنسا والولايات المتحدة الأميركية بتقديم المشورة والدعم لتطوير الملف، وتم توقيع عقود مع شركات أوربية وأميركية أبرزها سيمنس الألمانية ولكن دائماً ما يتم الضغط من أجل إيقافه، فلقد أبعدت إيران الجميع عن ملف الكهرباء بما فيهم تركيا، حيث نلاحظ أن التعاقد مع شركات تركية لتزويد الكهرباء لم يتم التوافق عليه في العام 2016 حيث تم انهاء العقد الخاص بالبوارج التركية من قبل لجنة الطاقة في مجلس الوزراء بالاستناد إلى أن البلاد مكتفية نسبياً!، وكانت السفن تمد العراق ب350 ميغا من الكهرباء تضاف إلى الحصيلة الكلية، لكن السفن غادرت مياه العراق مخلفة وراءها مديونية على العراق تصل إلى قرابة مائة مليون دولار لم توفَ للسفن إلا بعد فترة طويلة.

في حالة قريبة من حالة العراق تؤّمن الحكومة اللبنانية مايقرب من 50% من انتاج الكهرباء في لبنان ويغطى الباقي عن طريق استثمارات فردية ومؤسسات خاصة بكلفة مرتفعة، وقد بدت الحكومة بعد الحرب جادة في صيانة قطاع الكهرباء فخصصت له مبالغ ضخمة واستطاع لبنان إنتاج 500 ميغا واط عام 1993 ثم 1250 عام 2020 وقد دخلت شركة انسدالو الإيطالية و كذلك سيمنس الألمانية لإنشاء محطات توليد تصل قيمتها إلى نصف مليار دولار أميركي ومنحت على إثرها حكومات هذه الدول قروضاً للحكومة اللبنانية من أجل تسهيل المشاريع، هكذا بدأت سلسلة انفاقات سنوية كلفت الحكومة مليارات الدولارات وعرضته لديون خارجية استجابة لضغوطات شعبية متزايدة لتأمين الكهرباء والتقليل من مشاكل القطاع، وقد وصلت الديون اللبنانية مطلع 2020 إلى قرابة 90 مليار دولار دين عام تجاوز 150% من الناتج المحلي اللبناني.

في أذار 2020 أعلن لبنان أنه عاجز عن سداد دينه، ورغم أن عشرات المشاريع تم تقديمها كمقترحات لحل أزمة الكهرباء إلا أن مزيجاً من فساد و مصالح سياسية أبقت لبنان غارقاً في العتمة والديون وأضعفت من قدرات الحكومة والمؤسسات الرسمية لتمثل أزمة الكهرباء في لبنان أحد أبرز الأزمات في المنطقة والتي ساهمت بخلافات سياسية بينية واختناقات اقتصادية وتدخلات خارجية.

وربما يحاجج البعض أن العراق حالياً بعيد نسبياً عن حالة لبنان كونه يتمتع بموارد أفضل ولكن -مع مرور الوقت- مالذي سيحصل؟، سيستمر العراق بدفع مبالغ كبيرة كديون لتجهيز البنى التحتية دون أن يستطيع ملامسة المشكلة الحقيقية وسيستمر وضع الكهرباء على حالها لسنوات وربما نشهد أزمة مماثلة لأزمة لبنان عند أي منعطف أو استحقاق كبير في العراق، وأزمة كورونا الراهنة مثال واضح على أن قدرات العراق لن تكون كبيرة في مواجهة الأزمات حيث انخفض سعر النفط واستقالت الحكومة و عجز البلد عن تأمين المستلزمات الصحية مما أسهم في تعزيز حالة الفوضى، وقد وصل الدين العام العراقي إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي دون حل الأزمة.

رابعاً: الحلول المطروحة لمشكلة الكهرباء العراقية وردود فعل اللاعبين الرئيسين

تقنياً تبدأ مشكلة العراق الكهربائية من حجم الإنتاج الذي يقل عن الطلب وتتجه نحو خطوط النقل التي تصل لأكثر من 18ألف كيلو متر، وتشمل التوزيع والجباية، ولكنها من ناحية أخرى تواجه مشاكل إدارية تتعلق بإرادة الحل من مؤسسات الحكومة و قضايا الحوكمة المتبعة في القطاع، فالملف بات أحد أبرز ملفات المساومة المحلية ويورد لبعض الأحزاب والجماعات العراقية مصدراً سنوياً كبيراً، كما أنه يواجه مشكلة سياسية تتعلق بتموضع العراق حول إيران وما ينجم عنه من رفض للمشاريع المنفذة التي تواجه بالإلغاء و المنع وتمتد نحو استهداف الخطوط والمنشآت.

هكذا فإن الحلول المطروحة لمشكلة الكهرباء العراقية لن تكون ناجحة إذا اقتصرت على جانب واحد من الجوانب الفنية بل يجب أن تكون شاملة لجميع المراحل وكذلك لن تكون ناجحة في حال بقيت في الإطار الفني بل يجب أن ترافقها خطوات سياسية وأخرى إدارية، وتأتي أبرز الحلول المطروحة حالياً في ضوء التحركات الدولية والإقليمية الأخيرة على الشكل الآتي:

  1. تعزيز تقنيات قطاع الكهرباء المحلي: وذلك عبر إشراك مزيد من مؤسسات القطاع الخاص التي لعبت دور مهم في تأمين احتياجات العراق من الطاقة، ولكن هذا الإشراك يحتاج إلى توافق سياسي واستقرار أمني و هو ممكن في حال كانت مؤسسات القطاع الخاص قوية بحد ذاتها، ويتوقع أن تتحالف مؤسسات محلية مع أخرى دولية أو أن تحصل بعض المؤسسات المحلية على عقود تنفيذ لصالح شركات أجنبية، حيث تم توقيع عدة عقود لتطوير القطاع في الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء لواشنطن مع خمس مؤسسات بينهم شيفرون وجنرال الكترك، كذلك هناك مذكرات تفاهم سابقة مع جنرال الكترك الأميركية و سيمنس الألمانية وهما مؤسستين تقف خلفهما دول قوية يمكن أن تعزز من فرص تنفيذ مشاريعهما عبر شركات محلية أو أجنبية أخرى لصيانة و تطوير المحطات وخطوط النقل والتوزيع وتحسين عملية الجباية، ويأتي التعارض في هذا الاطار بين رغبة الولايات المتحدة الأميركية بالاستئثار بعقود التطوير عبر جنرال الكترك وشركات أميركية أخرى وبين رغبة ألمانيا بتطوير القطاع، للحصول على الموارد المتأتية من هذا القطاع والتي تقدر بأكثر من 20 مليار دولار، ففي العام 2018 أعلن المدير التنفيذي لسيمنس أن الرئيس الأميركي ” ترامب” يضغط على العراق من أجل وقف التعاقد مع سيمنس، كذلك قد تسعى تركيا للدخول على خط تطوير المحطات العراقية وتحسين عمليات الإمداد والتوزيع، و بدرجة أقل بلجيكا وفرنسا.

ومن المتوقع –خلال الفترة المقبلة- أن تتموضع هذه المؤسسات عبر صفقات غير متعارضة، فتحوز جنرال الكتريك وشركات أميركية أخرى صفقات التطوير الرئيسية من وزارة الكهرباء العراقية لتستخدم مراجلها و معداتها الرئيسية في عمليات بناء و تطوير محطات الكهرباء وتعطي عقود التنفيذ كبناء المحطات ومد الكبلات وعمليات الحفر و غيرها لشركات تركية، عراقية، وربما خليجية.

ويتوقع أن تتموضع الشركات الألمانية في قطاع الطاقة النظيفة حيث من المتوقع أن تحوز هذه الشركات على عقود تطوير المحطات المائية و الشمسية ويتوقع أن العراق يمكن أن يطور في هذا الجانب مشاريع ضخمة تزود العراق بجزء من احتياجاته السنوية وبشراكة مع بعض المؤسسات الأوربية و المحلية يمكن أن يتم تشغيل هذه المحطات و تعزيز كفاءتها.

كما يتوقع أن تجري فرنسا مباحثات متوسطة الأمد لإنشاء محطة نووية في العراق تجعله ينتقل إلى خطوة نوعية في الاكتفاء والتصدير للطاقة الكهربائية، حيث أعلن ماكرون عن أن زيارته تضمنت حديثاً من هذا النوع مع الكاظمي.

التحدي الرئيسي في أن هذه العملية ستحتاج الى وقت طويل نسبياً قد يمتد بين خمس إلى عشر سنوات ليحقق العراق نتائج ملموسة على مستوى الإنتاج، النقل والتوزيع و كذلك تحسين عمليات الجباية، وسيكون العراق خلال هذه المدة كذلك طور من منظومة الاستفادة من الغاز المحروق لاستثماره في عملية توليد الطاقة مما يعني بالنتيجة أن العراق من الممكن أن يمتلك منظومة طاقة جيدة تعتمد على مصادر متنوعة و موارد داخلية لتشغيلها قد تمكنه من التصدير في نهاية المطاف.

  1. الاستجرار من دول الجوار وعملية الربط مع الشبكة الخليجية: يحتل موضوع الربط مع الشبكة الكهربائية الخليجية أهمية عالية هذه الأيام، و يجري العراق بدعم من الولايات المتحدة الأميركية محادثات مع مسؤولين خليجين في هذا الجانب، وقد شملت زيارة وزير الخارجية السعودي الحديث حول ملف الكهرباء.

إذ تسعى الدول الخليجية المتحمسة لمشروع الربط لإضعاف قدرات إيران في العراق، و يتوقع أن تقدم عرضاً مغرياً في هذا الجانب يجعل منه مقبولا للغاية وغير قابل للرفض من ناحية الجدوى الاقتصادية، ففي وقت سابق عرضت السعودية إيصال الغاز بأسعار زهيدة مقابل التخلي عن الغاز الايراني.

ومشروع الربط مع دول الخليج جرى الحديث حوله في أوقات سابقة و أعلن عن أنه في مراحله الأخيرة في أغسطس – أب 2019 ولكنه لم يحصل، للآن ويتوقع أن عرقلته سياسية أكثر من أي شيء أخر، وفي حال توفر الإرادة و التوافق السياسي على الربط فإن المشروع يتوقع أن يزود العراق خلال ست إلى ثمان أشهر بطاقة تبدأ بـ500 ميغا واط ترتفع نسبياً لتصل إلى سد حاجة العراق خلال بضع سنوات و سيتم الربط ابتداءً من محطة الزور الكويتية وذلك بمد العراق ب500 ميغا وات كمرحلة أولى و من ثم يرتفع الرقم إلى 1800ميغاوات ويتوقع أن تتحمل هيئة الربط الخليجي تكاليف المشروع الذي يمكن أن يكلف قرابة 200 مليون دولار كما يتوقع أن يكون اطاره الزمني عدة أشهر للمرحلة الأولى ثم سنتين للمرحلة الثانية وبعدها تبدأ مراحل أخرى تمتد إلى خمس سنوات، أي أننا نتحدث عن اطار زمني قصير إلى متوسط يمكن أن يستفيد العراق عبره من الكهرباء الخليجية.

في نفس الوقت يتوقع أن يتجه العراق نحو استجرار الكهرباء من تركيا عبر خطوط قديمة وأخرى منشأة لغرض اتفاق التزويد بالكهرباء ولكن الطاقة هنا ستكون بين 200 ميغاوات خلال المراحل الأولى أي بغضون عدة أشهر، وترتفع  إلى 1500 ميغاوات بالحد الأقصى خلال بضعة سنوات، وستسعى هذه الخطوة لتنويع مصادر الطاقة وإرضاء الأطراف المعترضة على الخروج من عباءة إيران إلى عباءة الخليج، إلا أن ما يعيق هذه المسألة هو التصعيد الحاصل مؤخراً مع تركيا على خلفية القصف المتكرر لتركيا داخل الأراضي العراقية دون تنسيق مع الحكومة.

الاعتماد على استجرار الطاقة الكهربائية من إيران لا يتوقع أن يتوقف تماماً على المدى القصير حيث هناك عقد تزويد بالطاقة الكهربائية والغاز يمتد حتى نهاية 2021 و لكن من المتوقع أن يتم تخفيفه بشكل تدريجي بحيث يقل الاعتماد على كل من الواردات من الغاز و الكهرباء لتصل إلى مستويات تقارب 500 ميغاوات من الكهرباء سنوياً و مستويات قريبة من الصفر من الغاز في غضون ثلاثة أعوام.

  1. مشروع الشام الجديد والتحالفات الإقليمية والدولية: في شهر أغسطس-أب 2020 التقى رؤساء مصر والأردن مع رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي لبحث ماعرف بمشروع الشام الجديد، و الذي يعتقد أنه سيلعب دوراً جيداً في ملفات الطاقة خاصة لجهة الكهرباء و الغاز، والمشروع يمكن أن يلعب على المدى البعيد دوراً في تعزيز قطاع الطاقة العراقي لجهة التزود بالغاز أو الاستثمار في قطاع الكهرباء خاصة إذا ما انضمت للمشروع دول أخرى متوقع أن تتقارب من هذا المشروع، وقد يكون الشكل الأكثر توقعاً هو تزويد العراق بالغاز على المدى القصير والمتوسط عبر الأردن وربما تطوير منظومة ربط كهربائي – في وقت لاحق- بين مصر والعراق عبر الأردن.

ورغم أنه لا يزال من المبكر الحكم على هذا المشروع وفوائده ولكن على مايبدو فإن العراق سيضع ملف الكهرباء والطاقة في أي تكتل دولي أو إقليمي سيدخله وسيعزز التعاون معه مما سينعكس عليه بشكل إيجابي، فملف الكهرباء العراقي يعتبر أحد الروافع الاقتصادية و السياسية للعراق لاستثماره في تطوير العلاقات مع عدة دول.

كما يتوقع أن تتدخل الصين عبر اتفاق الشراكة الاقتصادي الموقع نهاية العام 2019 بين الحكومة العراقية والصين، حيث نص الاتفاق على تأسيس صندوق صيني لإعادة الإعمار بقيمة 10 مليار دولار  على شكل قرض بفوائد بسيطة، ويمكن أن يرتفع المبلغ إلى 30 مليار دولار في حال نجاح المشاريع المنفذة، ويحق للعراق بموجب الاتفاق ان يشرك شركات أجنبية أو محلية في تنفيذ المشاريع بجانب الشركات الصينية، وبموجب الاتفاق من الممكن أن تدخل الصين في حقل تطوير أو انشاء محطات توليد طاقة كهربائية ولكن الأمر يتوقع أن يتم معارضته بشدة من قبل الولايات المتحدة الأميركية و بالتالي رفضه في النهاية على المدى القصير، إلا أن الأمر ربما يبقى قائماً أو يتم تفعيله على المدى المتوسط و البعيد في إطار تنويع الشراكات.

هكذا يعتبر ملف الكهرباء العراقي أحد أسخن الملفات الحاضرة في إطار إعادة تشكيل المشهد العراقي الداخلي و إعادة ترتيب تموضع العراق الإقليمي والدولي، وتسعى حكومة العراق الحالية عبر استثمارها في هذا الملف لإرضاء جموع المحتجين داخلياً و تحقيق استقلال سياسي و اقتصادي في إطار العلاقات الإقليمية والدولية، ونظراً لأهمية الملف اقتصادياً و سياسياً فإن عملية الاستقرار النهائية للاعبين الرئيسيين لن تكون سهلة ففي إطار دولي هناك تنافس أوربي- أميركي- صيني وفي إطار إقليمي هناك تنافس إيراني- خليجي – تركي مما قد يشكل أحد أعقد الملفات الحالية التي تتشابك مع ملفات أخرى.

مركز الأناضول لدراسات الشرق الأدنى

مركز الأناضول لدراسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: