قراءة مبكرة للعلاقات التركية – الأمريكية في عهد بايدن

1. ملخص تنفيذي
- من الواضح أن بايدن في الفترة الأولى من رئاسته سيركز بشكل كبير على تحديات الوضع الداخلي للولايات المتحدة وسيعطي الأولوية لقضايا الداخل مثل وباء كوفيد 19، والمشكلة الاقتصادية.
- على صعيد السياسية الخارجية فلا يتوقع أن يكون الشرق الأوسط أولوية كبيرة بالمقارنة مع ملفات أخرى تشغل الولايات المتحدة في مقدمتها الصين وروسيا والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي وإعادة تموضع الولايات المتحدة في المنظومة الدولية.
- أحد العوامل المهمة التي ستحدد العلاقة التركية الأميركية هو الدور الذي تلعبه تركيا كفاعل دولي أو اقليمي في العديد من القضايا التي تشغل العالم اليوم، وتشكل القوى العظمى مثل الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي طرفاً فيها.
- تتسم العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا بالتعقيد والتذبذب، والسنوات القليلة الماضية كانت اختباراً حقيقياً لما يمكن لتركيا فعله من ناحية، وأهمية الدور التركي بالنسبة للولايات المتحدة والغرب من ناحية أخرى.
- بحسب التوجهات المعلنة لكلا الطرفين -على الأقل- فإن الولايات المتحدة وتركيا تشتركان في كثير من الأهداف الإستراتيجية. ولكنهما فشلتا -إلى حد ما- في الاتفاق على الآلية المناسبة للعمل على تلك الأهداف.
- من وجهة نظر تركيا فإن عهد أوباما كان المرحلة التي تصرفت فيها الولايات المتحدة بتجاهل غير مسبوق وتجاوز غير مقبول لدور تركيا، بينما كانت إدارة ترامب أكثر تفاعلاً مع تركيا بخصوص معظم قضايا المنطقة ولكن هذا التفاعل من طرف ترامب لم يكن إيجابياً دائماً بل كان في معظمه سلبياً وهذا أدى إلى تدني مستويات الثقة بين البلدين بشكل كبير.
- رغم أنّ كلاً من الولايات المتحدة وتركيا قد تغير بشكل كبير منذ الحرب الباردة، لكن صورتهما عن بعضهما البعض لم تتغير منذ ذلك الحين. فلا تزال تركيا تنظر إلى أمريكا على أنها تسعى للسيطرة على سياساتها الداخلية، ولا تزال أمريكا تنظر إلى تركيا كأداة في صراعها الجيوسياسي الأكبر.
- المعطيات التي يواجهها بايدن اليوم مختلفة عن تلك التي كان يتعامل معها أوباما، وبالتالي فإن سياسته اتجاه الشرق الأوسط قد لا تكون مشابهة أو مكملة لسياسات ترامب بالشكل الذي يعتقده الكثيرون.
2. مدخل
مع تسلم بايدن مهام عمله كرئيس للولايات المتحدة -بعد فترة رئاسة ترامب المليئة بالتجاذبات والضجيج- وبمراجعة ما تقدم به كل من ترامب وبايدن خلال فترة الترشح، يبدو أن هناك اختلافاً يصل حد التناقض فيما يخص العلاقات الخارجية الأميركية لما بعد 2020.
تنتهج أنقرة سياسة خارجية أكثر استقلالية مما يحجم من فرص التعاون بين الطرفين، في ضوء بروز دور تركيا الهام ببعض أبرز الملفات الدولية مثل سوريا وليبيا والخلافات في شرق المتوسط فضلا عن قضايا الهجرة وعلاقات الغرب بروسيا وإيران وغيرها من الملفات التي ستحكم العلاقات بين البلدين في ظل إدارة بايدن.
لذا فالسؤال المهم اليوم فيما يخص العلاقات التركية الأميركية هو:
ما الاتجاهات والتحديات التي تواجه العلاقات التركية – الأمريكية في ظل الدور الدولي الصاعد لتركيا ومجيء إدارة بايدين للبيت الأبيض؟
3. مساحات مشتركة وقضايا شائكة
لطالما ردد الساسة والمحللون السياسيون المقولات حول أهمية تركيا بالنسبة للغرب ولكن السنوات القليلة الماضية كانت اختباراً حقيقياً لما يمكن لتركيا فعله من ناحية، وأهمية الدور التركي بالنسبة للولايات المتحدة والغرب من ناحية أخرى.
تتسم العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا بالتعقيد، كما يردد المسؤولون من كلا الجانبين دائماً، فهم يقدرون كثيراً تحالفهم الذي دام عقداً من الزمن، ويتعاونون في العديد من القضايا التي تمتد من العراق إلى داعش إلى البلقان. لكنهم في الوقت نفسه، لا يثقون كفاية ببعضهم البعض، وفي بعض الأحيان يعاقبون ويدينون بعضهم البعض علانية، ويتقاتلون بمرارة حول مجموعة من القضايا بدءاً من الأكراد إلى الناتو إلى إسرائيل.
في الحقيقة تركيا هي الدولة العلمانية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة المحكومة ديمقراطياً وتتمتع باقتصاد سوق حر وعلاقات قديمة نسبياً مع المؤسسات ذات التوجه الغربي، مثل الناتو، والقوات المسلحة التركية هي ثاني أكبر قوة عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي وتتمتع بخبرة قتالية حديثة وسجل تاريخي مثير للإعجاب من حيث عمليات السلام والاستقرار في النزاعات متعددة أطراف في مناطق الصراع التي تمتد من البوسنة والصومال إلى كوسوفو وأفغانستان.
يرتكز أساس الشراكة بين الولايات المتحدة وتركيا على حلف الناتو، إلى جانب أمور أخرى مثل الأمن والتأثير الاقتصادي والعسكري والثقافي لتركيا في المحيط الإقليمي والدولي، بالاضافة إلى التجارة الثنائية والاستثمار والتصدي الفعال لتهديدات المناخ والأوبئة، وموقع تركيا الحيوي على الخارطة الأوروبية الآسيوية، والذي يربط البحر الأسود بالشرق الأوسط، ومنطقة البلقان وجنوب القوقاز.
كل هذه القضايا تشكل أرضية مهمة للتعاون الثنائي والتحالف بين الولايات المتحدة وتركيا.
وعلى صعيد أكثر تفصيلاً، فإن تقاطع الرؤى بخصوص عدة ملفات مثل المسألة السورية مثلاً من المفترض أنه يفتح المجال للعمل معاً بشكل وثيق، إذ ترى كل من واشنطن وأنقرة بوجوب حدوث انتقال سياسي في سوريا بدون الأسد، والحفاظ على وحدة أراضي سوريا، وتقييد الحركة العسكرية الروسية، ومنع المزيد من الفظائع ضد المدنيين.
ويمكن القول أنه وبحسب التوجهات المعلنة لكلا الطرفين -على الأقل- فإن الولايات المتحدة وتركيا تشتركان في كثير من الأهداف الإستراتيجية. ولكنهما فشلتا -إلى حد ما- في الاتفاق على الآلية المناسبة للعمل على تلك الأهداف.
فمن منظور سياسي واقتصادي، يوجد تاريخ طويل من اعتماد هاتين الدولتين على بعضهما البعض لتحقيق أهدافهما على المدى القصير والطويل، في حين أن كلا الحكومتين قد تحقق بعض أهدافهما قصيرة المدى دون تعاون ثنائي إيجابي، إلا أن كلفة عملهما بعيداً عن بعضهما البعض ستكون عالية على كلا الطرفين.
فمثلاً عندما فشلت إدارة بوش في إقناع البرلمان التركي بالسماح بنشر القوات لفتح جبهة في شمال العراق في آذار/مارس 2003، كان على الأمريكيين تحمل التكلفة العسكرية والاقتصادية لهذا القرار. وعلى الرغم من أن القوات الأمريكية تمكنت في النهاية من إسقاط صدام حسين ونظامه، إلا أنهم وبدون التعاون التركي خسروا المزيد من الأرواح وتم إنفاق المزيد من الأموال، والأهم من ذلك أن الهدف بعيد المدى المتمثل بعراق ينعم بالاستقرار قد ضاع. فقد ملأت إيران الفراغ الذي خلفه فشل التعاون الأمريكي التركي ولا يزال العالم بأسره يعاني من الآثار الخارجية السلبية لتلك النتيجة.
اليوم المنطقة مليئة بالصراعات في سوريا وليبيا واليمن ولبنان وشرق المتوسط وغيرها. كل هذه الصراعات سيكون من الأسهل إدارتها إذا عملت تركيا والولايات المتحدة معًا، وتفهمتا المخاوف المشروعة لكل منهما.
فاستمرار واشنطن بالعمل مع الميليشيات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK) على أمل أن يتقبل الأتراك مع الوقت فكرة وجود قوة عسكرية من هذه الميليشيات على حدودهم، هذه غالباً ليست استراتيجية صائبة من طرف واشنطن. وبالمقابل، فإن شراء تركيا لأنظمة دفاع روسية الصنع كرد فعل على فشل الاتفاق على بديل غربي، ورفع مستوى العلاقة مع روسيا إلى حد التحالف بينما تقوم روسيا بدعم بشار الأسد ونظامه في سوريا، أيضاً هذا لا يبدو توجهاً صائباً من طرف تركيا ولا يخدم مصلحة الولايات المتحدة.
فمن صالح كلا البلدين إيجاد أرضية مشتركة، وإلا فإن البديل هو المزيد من الكلفة والتعقيد في معظم الاضطرابات في المنطقة، ومن أهم القضايا الشائكة التي تعقد العلاقة بين الطرفين هي:
1.3: قضية نظام الدفاع الصاروخي S-400
ينظر لهذه القضية حالياً على أنها القرار الأكثر إلحاحاً بشأن تركيا بالنسبة لبايدن، وبغض النظر عن نوايا بايدن، فلا يجب أن ننسى أن تركيا عرضت إجراء مناقشات تقنية مع الولايات المتحدة لتهدئة مخاوف حلف الأطلسي بشأن تفعيل منظومة S400، والتي تتضمن إمكانية قيام روسيا بجمع معلومات استخبارية عن الجيل التالي من مقاتلات F-35 من خلال S-400، وهذا ما رفضه ترامب رفضًا قاطعاً، الذي أكد أن وجود S-400 يعني منع تصدير طائرات F-35 إلى تركيا، مؤخراً هناك عقوبات شرعتها المؤسسة الأميركية على تركيا تتعلق بهذه القضية وهناك توتر واضح من طرف الولايات المتحدة بخصوصها،
في الوقت نفسه فلا يبدو أن تركيا ستتهاون في هذه القضية أو تتراجع ما لم تقدم الولايات المتحدة بديلاً مرضياً للأتراك وهو ما ينظر إليه العديد من الساسة الأمريكان على أنه نوع من التنازل غير الضروري.
2.3: المسألة السورية
القضية الأخرى التي يُرجح أن تتوتر الولايات المتحدة فيها مع تركيا هي سوريا.
في عام 2014، خلال الولاية الثانية لأوباما، قررت الولايات المتحدة دعم وحدات حماية الشعب (YPG) المرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية للقتال ضد تنظيم داعش، وفي عهد ترامب، قامت الولايات المتحدة بتسليح هذه الميليشيات بشكل مباشر،
هذه العلاقة وهذا الدعم لهذه الميليشيات والمجموعات التي تعيش ما يشبه حالة الحرب مع تركيا منذ سنوات طويلة، تسبب بتوتر كبير في العلاقة مع تركيا، التي تصنف حزب العمال الكردستاني (PKK)، كمنظمة إرهابية.
تزعم مصادر إعلامية تركية أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات بقيمة 400 مليون دولار إلى هذه الميليشيا بحلول أكتوبر 2020 ، تتكون في الغالب من معدات أمنية، وعسكرية.
من وجهة نظر تركيا فإن المشكلة ليست في التدخل أو الوجود الأمريكي في سوريا بحد ذاته ولكن لأن تركيا تعتبر نفسها هي الشريك الأحق بالدعم والتنسيق من أي طرف آخر، فما بالك إذا كان هذا الطرف هو جهة مناوئة لتركيا ومصنفة على قوائم الإرهاب ليس في تركيا وحدها وإنما من قبل الولايات المتحدة والعديد من دول الاتحاد الأوروبي.
خصوصاً إذا أدركنا أن تركيا ومنذ بداية الأزمة في سوريا، تأثرت بشكل كبير بما يجري هناك وعانت من الهجمات الإرهابية على أراضيها والاشتباكات على حدودها. كما عانت تركيا، التي انضمت إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة داعش في سبتمبر 2014 وفتحت قواعدها للقوات الأمريكية لمهاجمة الجماعة الإرهابية في عام 2015 ، من عدة تفجيرات خطيرة لداعش، وبالتالي فليس مستغرباً أن تعتبر تركيا الشريك الأجدر بالثقة والتنسيق من أي جهة أخرى، وهو ما لا تقر به الولايات المتحدة بالطريقة التي تراها تركيا.
3.3: النزاع التركي اليوناني في البحر المتوسط
احتدم الصراع بين اليونان وتركيا خلال الفترة الماضية بسبب النزاع على الحدود البحرية، حيث انخرط كل جانب في خطاب عدواني بشكل متصاعد.
ساعد التدخل الدبلوماسي من خلال دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على تهدئة التوتر مؤقتاً.
الآن من المفترض أن يركز بايدن سياسته في هذه المنطقة على تعزيز الاستقرار والأمن لجميع حلفائه، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يحث صانعي السياسات في كل من أنقرة وأثينا على التفاوض بشأن تسوية دائمة.
تحتاج الولايات المتحدة إلى إيجاد طريقة للاستفادة من علاقاتها مع كلا العاصمتين لاقناعهما بالجلوس إلى المفاوضات، الجهة الأخرى الوحيدة المستعدة للتوسط هي دول الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا، لكن تركيا لا ترى في هؤلاء أطرافاً محايدين في هذه القضية، نظرًا لعضوية اليونان وقبرص في الاتحاد الأوروبي وطبيعة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وطريقة تعامل بعض دول أوروبا مع هذه القضية مثل فرنسا التي أدى تدخلها إلى رفع مستوى التوتر، وأيضاً تدخل حليف الولايات المتحدة القوي (إسرائيل) في هذه القضية.
من وجهة نظر تركيا إن أي حل سيتم العمل عليه في هذه المنطقة فلا بد أن يتضمن إشراك تركيا في هيئات صنع القرار الدولية في شرق البحر الأبيض المتوسط، باعتبارها أكبر اقتصاد في المنطقة وقوة متنامية، وأي استبعاد لتركيا من هذه الهيئات سيضع خطط استثمار وتصدير موارد الغاز الطبيعي في هذه المنطقة في خطر، لأنه من الواضح أن تركيا لن تقبل ولن ترضخ للتهميش،
وهنا يأتي دور الولايات المتحدة التي ربما تكون الجهة الأكثر قدرة -إن لم تكن الوحيدة- على منح تركيا هذه المكانة.
4.3: النزاع في ليبيا
تعتبر قضية ليبيا من القضايا الشائكة المرتبطة بشكل وثيق بمصالح تركيا في شرق البحر المتوسط،
في بداية عام 2020، تدخلت تركيا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني -المعترف بها من قبل الأمم المتحدة- وساعدت في قلب دفة المعركة ضد حفتر.
ما يجعل الوضع في ليبيا معقداً، أن سياسة الولايات المتحدة في ليبيا تحتاج إلى التوضيح، فبينما تدعم الإدارة الأمريكية بشكل عام حكومة الوفاق الوطني، قام ترامب بإرسال رسائل إيجابية عن الجنرال حفتر، عن كونه زعيماً قوياً ومقرباً.
فهل ستكون إدراة بايدن أكثر عقلانية في موقفها من حفتر والوضع في ليبيا بشكل عام، بحيث تتخلى عن الخطاب الداعم لحفتر خصوصاً وأنه متهم بارتكاب العديد من الانتهاكات والفظائع بحقوق الإنسان.
4. من عهد التجاهل إلى عهد انعدام الثقة
بمقارنة نهج التعامل مع تركيا خلال فترتي أوباما وترامب، فبقدر ما كانت فترة أوباما هي الفترة التي شعرت فيها تركيا ببرود وإهمال كبيرين من جانب الولايات المتحدة في التعامل مع ملفات وتحديات ملحة بالنسبة لتركيا -كما عبرت عن ذلك تركيا صراحة في المقالات التي نشرها الرئيس أردوغان في بعض كبرى المواقع الإعلامية الأمريكية-، فإن فترة ترامب -رغم العلاقات والتواصلات الشخصية التي طغت على طبيعة العلاقة خلالها- يمكن تقييمها فعلياً بأنها فترة تدني الثقة بين الطرفين إلى مستويات غير مسبوقة،
فمثلاً على صعيد القضية الفلسطينية -التي تعد واحدة من القضايا الحساسة بالنسبة لتركيا- والعلاقات التركية الإسرائيلية، فلطالما لعبت الولايات المتحدة دور وسيط بين تركيا وإسرائيل، ويعد تدخل أوباما في أبريل 2013 لإجبار نتنياهو على الرد على الهاتف والاعتذار لأردوغان عن مقتل مواطنين أتراك في أسطول “مافي مرمرة” مثالًا مهماً على شكل الدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة، أيضاً من المعلوم أن الولايات المتحدة كانت طرفًا خفيًا في المحادثات التي أدت إلى التقارب بين تركيا وإسرائيل في عام 2016. بالمقابل فإن نهج إدارة ترامب الذي نتج عنه قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أدى إلى خسارة الثقة من طرف تركيا، الأمر نفسه تكرر في القرار المفصلي الآخر الذي اتخذه ترامب بخصوص المصادقة على ضم أراضي الجولان إلى إسرائيل.
المثال الآخر الذي يؤشر لضعف الثقة في العلاقات التركية الأميركية يتعلق بطريقة إدراة واشنطن لعلاقتها ودورها في منطقة الخليج، حيث أبدت إدارة ترامب انحيازاً معيناً إلى جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في عام 2017 خلال الأزمة بين الرياض والدوحة بلغ هذا الانحياز ذروته عندما وصف الرئيس ترامب قطر بأنها “ممول للإرهاب على مستوى عالٍ للغاية”، بينما بادرت تركيا لإرسال قوات إلى قطر تمركزت في قواعد عسكرية، ورفعت من مستوى التعاون في مختلف المجالات بين البلدين.
مثال ثالث يتعلق بجانب العلاقات التجارية، فقد عانت تركيا من إشكالات كبيرة في علاقاتها مع الولايات المتحدة خلال فترة ترامب، وكان للنهج الذي تعامل فيه ترامب مع هذه القضية أثراً بالغ السوء على الاقتصاد التركي، حيث ساهمت قرارات ترامب والعقوبات التي فُرضت في عهده (وتغريداته) في انهيار العملة التركية وإضعاف الاقتصاد التركي.
رغم كل هذه الأمثلة فإن التصور السائد في العديد من الأوساط، بأن تركيا تتقرب من روسيا وتبتعد عن الغرب وعن الولايات المتحدة غير صحيح، فتركيا هي القوة الوحيدة في المنطقة التي قاتلت إلى جانب المعارضة ضد النظام وإيران وروسيا في سوريا وليبيا وكاراباخ. كما أظهرت تركيا أنها مستعدة وقادرة على صد العدوان الروسي ليس فقط في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط​​، ولكن أيضًا في منطقة البحر الأسود والقوقاز من خلال تعميق شراكتها الدفاعية ومساعدتها العسكرية مع أوكرانيا وكذلك صفقات الدفاع العسكري والدعم لجورجيا، والتعاون الثلاثي بين تركيا وجورجيا وأذربيجان. كل هذا دون دعم من الغرب، مع ذلك تمكنت تركيا من خفض التصعيد وحل العديد من مشكلاتها مع روسيا.
5. أولويات بايدن والعلاقة مع تركيا
يتوقع المراقبون أن يعطي بايدن في الأيام الأولى من ولايته الأولوية للتعافي الاقتصادي من COVID-19 وعودة العجلة الاقتصادية وعجلة الحياة بشكل عام، مع اتخاذ السياسة الخارجية مقعدًا مؤقتًا خلف التحديات المحلية. وحتى عندما يحين دور السياسة الخارجية، فمن المحتمل ألا يكون الشرق الأوسط هو التركيز الأساسي لبايدن عند مقارنته بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ والصين وأوروبا والأمريكتين وإحياء العلاقات عبر الأطلسي.
يتشابه بايدن وأردوغان بأنهما من النوع السياسي البراغماتي. لذا يتوقع بأنهم سيتعاونان بشكل جيد، رغم أن بايدن يميل لاتباع رأي الخبراء التقنيين داخل المؤسسات الأمريكية مثل الخارجية والبنتاغون وهذا يمكن أن يؤدي إلى مواقف أكثر صرامة تجاه تركيا في قضايا مثل نظام الدفاع S-400، وهذا قد يبرر هجوم بايدن في تصريحاته في أواخر عام 2019 حول عزل أردوغان من منصبه، وهجومه على ترامب في 2020 بتهمة “تدليل” تركيا في سياق نزاعات الحدود البحرية التركية مع اليونان وقبرص والحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
مع ذلك فمن المتوقع عاجلاً أو آجلاً أن يدرك الرئيس بايدن الأهمية الاستراتيجية للعلاقة بين تركيا وبقية حلف الناتو، وأهمية الاتفاقية الأخيرة بين تركيا وأوكرانيا بشأن التعاون بين صناعاتهما الدفاعية، التي تركز على السفن البحرية والطائرات العسكرية والمركبات الجوية بدون طيار. كما أنّ تركيا تعد من أشد المؤيدين لعضوية جورجيا في الناتو، والتي ينبغي أن تروق للرئيس بايدن.
من ناحية أخرى فإن الولايات المتحدة تمر هذه الفترة بواحدة من مراحل التنافس الشديدة مع قوى كبيرة (الصين وروسيا) وستشكل هذه المنافسة بشكل أو بآخر المنظور الذي تنظر الإدارة الأميركية الجديدة من خلاله إلى العالم، وهذا يعني أن بايدن سيكون بحاجة إلى حلفاء مقتدرين لكبح بكين وموسكو والخصوم الآخرين الأقل شأناً مثل إيران وكوريا الشمالية.
مقارنة بالرئيس ترامب، الذي يميل لمعالجة القضايا والخلافات الشائكة من خلال العلاقات الثنائية القائمة على المصالح الوطنية المحددة بشكل دقيق -كما في حالة كوريا الشمالية والصين وغيرها-، لطالما ركز بايدن في خطاباته وطروحاته على أهمية “التعاون مع الحلفاء” و “التعددية” و “التركيز على القيم” لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وهذا فارق مهم قد ينعكس إيجابياً على العلاقة مع تركيا وسيسهل الاعتراف بالقيمة المضافة الفريدة لتركيا في المؤسسات الدولية في نظام عالمي متعدد الأقطاب، وسيكون من الأسهل الاستفادة من التنوع الثقافي والديني الذي تجلبه تركيا إلى طاولة الحوار في بيئة قائمة على القيمة بدلاً من بيئة تستند إلى المصلحة فقط ترتكز على العلاقات الثنائية وتركز عليها.
من ناحية أخرى فإن إدارة بايدن القادمة تبدو ملزمة بإثارة ملف حقوق الإنسان والديمقراطية في تركيا، حيث تعتقد نخبة سياسية معينة في الولايات المتحدة أن الديمقراطية في تركيا بحاجة إلى “إنقاذ” وأن على الإدارة الأمريكية بذل الجهود من أجل ذلك.
ولكن الحقيقة أن هناك حدود لتدخل الولايات المتحدة. فبخلاف التأكيد باستمرار على تفضيل الإصلاح، فلا يتوقع أن تكون واشنطن عامل تغيير داخلي في تركيا.
وبتعبير أدق، يمكن لأمريكا أن تحدث فرقاً في عدد محدود من القضايا الداخلية في تركيا، إذ يمكنها أن تعلي صوتها في إشكاليات محددة مثل سجن موظفي القنصلية الأمريكية، ولكن لا يمكن لأمريكا مثلاً أن تعيد تشكيل مكانة المعارضة أو أن تؤثر على الانتخابات التركية أو أن تستبدل الفئة الحاكمة. ولكن يمكنها الدعوة إلى مزيد من الشفافية في الانتخابات ومزيد من الديمقراطية في ممارسات الحكم.
6. خاتمة واستنتاجات
إذا كان بايدن يرى فعلاً بأن السياسة الخارجية الأميركية قد تضررت خلال فترة ترامب وأنه يريد إصلاحها، فهو بحاجة إلى إحداث تحول حقيقي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بحيث تلعب واشنطن دوراً أكثر توازناً في المنطقة.
رغم أنّ كلاً من الولايات المتحدة وتركيا قد تغير بشكل كبير منذ الحرب الباردة، لكن صورتهما عن بعضهما البعض لم تتغير منذ ذلك الحين. فلا تزال تركيا تنظر إلى أمريكا على أنها تسعى للسيطرة على سياساتها الداخلية ولعب دور “صانع الملوك”، ولا تزال أمريكا تنظر إلى تركيا كأداة في صراعها الجيوسياسي الأكبر بدلاً من اعتبارها جهة فاعلة دولية بحد ذاتها.
تستند معظم التنبؤات بسياسة بايدن اتجاه تركيا والشرق الأوسط على افتراض أن بايدن لن يختلف أو يبتعد كثيراً في سياسته وطريقة عمله عن نهج أوباما، ولكن الواقع أن المعطيات التي يواجهها بايدن اليوم مختلفة عن تلك التي كان يتعامل معها أوباما، فمسار العلاقة بين تركيا وروسيا ذهب أبعد كثيراً مما كان عليه خلال فترة أوباما، والوضع الداخلي في تركيا على الصعيد الإداري والاقتصادي والسياسي حصل فيه الكثير من التطورات، كما أن التموضعات التركية الإقليمية والدولية اختلفت كثيراً في حجمها وكمها عما كانت عليه خلال عهد أوباما، وفيما يخص سوريا على وجه التحديد فقد أثبتت الفترة الماضية أن التدخل التركي كان مفيداً لوقف تقدم قوات بشار الأسد، وخفض التصعيد في المنطقة، ولكنه لم ينجح -إلى الآن- في تحقيق تسوية نهائية مقبولة.
لا يعني هذا أن الأسس الجوهرية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط أو تركيا ستتغير، ولكن وبغض النظر عن كيفية تعامل إدارة بايدن مع العدد الكبير من القضايا التي تؤثر على العلاقات الثنائية التركية الأمريكية، فمن المؤكد أن تركيا ستستفيد على المدى الطويل والاستراتيجي من مزيد من التعددية والمزيد من التركيز على القيم من قبل الولايات المتحدة لأن هذا أفضل لطريقة عمل المصالح التركية.
مع ذلك فإن هناك العديد من القضايا الشائكة بين الطرفين، وقد يكون لنهج بايدن في السياسة الخارجية إيجابيات كثيرة على العلاقة بين البلدين ولكنه سيضطر أيضاً لمواءمة هذا النهج مع دعوات “إنقاذ الديمقراطية في تركيا” القادمة من داخل الكونغرس أو من داخل إدارته نفسها وهذا من شأنه أن يكون سبباً إضافياً إلى جانب الأولويات الأخرى المتعلقة بالشأن الداخلي، للتأني في العلاقة بين الطرفين على مختلف الأصعدة فعلى سبيل المثال لو أخذنا الجانب الاقتصادي من العلاقة -وهو جانب مهم جداً بالنسبة لتركيا- فإن إحراز تقدم عملي نحو هدف 100 مليار دولار للتجارة الثنائية أو اتفاقية التجارة الحرة سيكون بطيئاً ولا نتوقع الوصول إلى هذا الهدف خلال فترة قريبة.
وبالتالي: فإن أكثر ما يمكن أن تأمله تركيا من بايدن والإدارة الأمريكية الجديدة هو أن لا يتم التعامل معها بنفس النهج المتهور الذي تعامل به ترامب، ولكنه أيضاً لن يكون نفس نهج التجاهل الذي سلكته إدارة أوباما وأدى لاتساع الفجوة في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة.
بعبارة أخرى فإن علاقة الولايات المتحدة مع تركيا في فترة بايدن، غالبا ستكون أكثر فاعلية مما كانت عليه في زمن أوباما، وأقل تصادمية، وأكثر براغماتية، مما كانت عليه في زمن ترامب. وبعبارة أخرى:
أكثر ديناميكية عمّا كانت عليه في عهد أوباما وأقل دراماتيكية عمّا كانت عليه في عهد ترامب