تحليلات

الصراع بين فلسطين وإسرائيل – معادلات وحسابات استراتيجية جديدة

بواسطة
تحميل نسخة PDF

أشعلت استفزازات قوات الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى في مايو 2021 مواجهة عسكرية جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي مواجهة تختلف عن سابقاتها، حيث ساهم التطور بمدى ودقة قدرات حماس الصاروخية في ترجيح كفة الصراع غير المتكافئ إلى جانب حركة حماس، ويبدو أن الحرب التي استمرت 11 يوما بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستؤدي إلى تطورات أخرى بالصراع بين الطرفين في المستقبل المنظور. 

وأظهرت المقاومة القوية لغزة (المحاصرة منذ 14 عاما) أن الجهات الدولية والإقليمية ستضع حركة حماس ضمن حساباتها من الآن فصاعدا، باعتبارها الفاعل الأهم في غزة. كما أن الحرب الأخيرة تؤكد فشل مشروع عزل ”غزة“، وانهيار ما يعرف بـ ”صفقة القرن“، والتي هندستها الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب وطبّعت على إثرها دول عربية عدة علاقاتها مع إسرائيل. 

لكن المعطى الأهم للحرب الأخيرة، هو انكشاف حالة الضعف الأمني العميق في إسرائيل، وفقدانها لهيبتها، هي ومعسكر الدول الداعمة لها، ويمكن اختصار المشهد إجمالا بالقول أن النصر كان حليف الفلسطينيين ومن دعمهم، والخسارة لحقت بإسرائيل ومن طبع معها.

وطبقاً لمقاييس الفوز والخسارة، فإن الأثر النفسي لهذه المواجهة على كلا الطرفين يعد عاملاً بالغ الخطورة. فعلى الجانب الفلسطيني، زادت هذه المواجهة من حالة الأمل ورفع المعنويات، بينما أغرقت الشعب والدولة الإسرائيلية في قلق أمني خطير، سينعكس على الأحداث المستقبلية، مشكلاً قاعدة لكل المخاوف الأمنية الإسرائيلية في المستقبل. 

ويمكن القول بأن الفشل في سياسة عزل ”غزة“ (التي فرضت من قبل نتنياهو وترامب) يقابله فراغ كبير من ناحية إيجاد سياسة بديلة لها، وبالعكس، فقد تصدرت ”غزة“ المشهد، وجعلت نفسها درعا ضد الاعتداءات على القدس وحي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وستظل مقاومتها محفورة آثارها في المستقبل، كما استطاعت غزة توحيد الفلسطينيين نحو القضية الرئيسية والأم، وهي ”تحرير فلسطين وتحقيق وحدتها وحماية مقدساتها“. 

ونستطيع اعتبار المظاهرات التي اندلعت في مدن فلسطينية عدة، داخل وخارج الخط الأخضر، تطوراً ومؤشراً يضع الإدارة الإسرائيلية أمام طريق مسدود مقابل تعاظم مكانة حركة حماس في الشارع الفلسطيني وفي أوساط الفصائل. وقد أكسبت حركة حماس مكانة سياسية بعد المواجهة الأخيرة تؤهلها لفرض نفسها بميزان القوى الدولي من الآن فصاعدا في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهذا يقابله مزيد من التراجع الى الخلف لمحمود عباس وحركة فتح، لاسيما بعد الأحداث التي جرت بالضفة الغربية. 

ويبدو أن سياسة التوتر التي انتهجها بنيامين نتنياهو فشلت في تمكينه من تشكيل حكومة بعد انتخابات غير حاسمة، والنتيجة الكبرى التي سببها، والمتمثلة بإبراز هشاشة أمن إسرائيل أمام صواريخ حماس، والتي جعلت كل الأهداف الإستراتيجية والمدن الكبرى وتل أبيب تحت قصفها المباشر.

من جانب آخر، لا يخلو انخراط مصر في جهود التهدئة ومفاوضات وقف إطلاق النار من سياق أمريكي-إسرائيلي، قد يسعى لإعادة ترتيب أوضاع غزة عبر بوابة مصر. واستحضار الأحداث التي جرت بمصر داخليا، وحصارها لغزة طوال الأعوام الماضية، يبرز تناقضا واضحا لدى الحكومة المصرية، والتي يبدو أنها ركبت موجة الحدث لامتصاص ردود أفعال الشارع المصري وتحسين صورة حكومة السيسي الذي حول حرب غزة إلى دعاية شخصية لنظامه، وعينه مصوّبة نحو الاستثمارات لإعادة إعمار غزة ضمن حزمة مساعدات تصل إلى 500 مليون دولار، وهذه الانتهازية يقابلها تجاهل لحاجات إنسانية ملحة في قطاع غزة، منها علاج الجرحى نتيجة غارات إسرائيل، حيث استقبلت مصر 20 جريحا منهم فقط.

أما بخصوص الجانب الأمريكي، فثمة اعتقاد تؤكده الأحداث الأخيرة، بأن إدارة بايدن ستتواصل بشكل ما مع حركة حماس خلال الفترة المقبلة، وإن لم يكن بشكل مباشر، رغم أن حماس لاتزال على قائمة الإرهاب الأمريكية، لكن قد يضطر الأمريكان لمثل هذا التواصل خلف الكواليس لأجل إيقاف أو تخفيف التهديدات الصادرة من غزة تجاه إسرائيل، مع إمكانية أن يصب هذا التواصل في تقوية العلاقات مع المكتب السياسي لحركة حماس (والذي تتواصل معه قطر وتركيا) ضد جناح الحركة العسكري المدعوم بشكل غير مباشر من إيران. 

ومما يزيد احتمال مثل هذا التواصل، حاجة إسرائيل لوقت طويل من التهدئة لمعالجة نقاط الضعف الأمني التي برزت لديها، والتي تؤكدها الأنباء التي تتحدث عن مطالب إسرائيل بتعويضات من الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة مليار دولار بسبب إخفاق القبة الحديدية.   ومع ذلك، فإنه من المستبعد انخفاض وتيرة الصراع واستمرار الهدوء لفترة طويلة، حيث سيستغل كلا الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، الوقت للاستعداد لمعركة جديدة (وربما مزيد من المعارك بعد ذلك)، كما ستزداد الأنشطة الاستخباراتية الهادفة لاكتشاف البنية التحتية العسكرية لحركة حماس تمهيدا لتدميرها في الحرب المقبلة، مع تأكيد حقيقة أن الحركة أنتجت صواريخ وذخائر عسكرية عالية الكفاءة، سيضطر الجميع لإعادة النظر في حساباتهم تجاهها. 

وهذا التطور في إمكانيات حماس العسكرية سبب اختلالا بالموازين الأمنية، وعلى نحو لم تتوقعه المراكز الأمنية الأمريكية والإسرائيلية، ومن المتوقع أن يستمر لفترة طويلة. وأهم جوانب حيرة الخبراء الأمنيين تتعلق بحجم الأسلحة التي تمتلكها حماس، وكيفية تطوير الحركة لتكنولوجيا الصواريخ وزيادة مداها بشكل مضطرد، واستطاعتها تصنيع هذه الصواريخ في قطاع تبلغ مساحته 363 كم مربع، وكل شبر  فيه هو تحت سمع وبصر العالم، رغم أن الحركة لم تتلق أي دعم من مصر المحاذية لها جغرافيا، بدءا من عهد مرسي وحتى إدارة السيسي الحالية. ولا يبدوا مقنعا الإدعاء بأن الحركة حصلت على الدعم من حزب الله اللبناني ومن ورائه إيران، إلا اللهم ما يتعلق بالدعم الفكري والتقني من دول مثل إيران والعراق، لكن تظل التجهيزات المادية تتم ضمن حدود قطاع غزة المحاصر. 

بعيدا عن كل هذه التطورات، فإن حماس نجحت تماما في إيصال رسالة مفادها أن أي استفزاز في القدس سيكون الرد عليه من غزة، وأي هجوم على غزة سيوحد الفلسطينيين، خارج الخط الأخضر وفي الداخل المحتل، ضد إسرائيل. 

وتظل بضعة أسئلة بلا إجابة، هل دخلت حماس هذه الحرب بشكل مخطط له سلفا، أما أنها انجرت إليها بشكل غير متوقع؟ وإذا كانت حماس قد خطط سلفا لخوض هذه الحرب، فهل هي مستعدة للمراحل المقبلة؟ وإذا لم تكن قد خططت لكل ذلك، فهل تستطيع تحمل تبعات الأحداث المستقبلية؟ وماذا سيكون ردة فعلها تجاه المآسي الجديدة التي قد تحدث؟

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: