الانتخابات التشريعية الجزائرية تصالح مع الدولة أم استمرار لنفس الحراك؟

اتجهت الجزائر نحو الانتخابات التشريعية وهي لم تخرج بعد من تأثير ما يوصف بالإحباط الشعبي الذي اتسمت به عهدة الرئيس الجديد منذ الأشهر الأولى، بعد تدهور الوضع الاقتصادي، وفيروس كورونا، كان حراك فبراير 2019 نقطة تحول كبيرة في تاريخ الجزائر الحديث، بعد اعتبارها البلد العربي الوحيد الذي لم ينخرط في موجة التغيير الكبيرة التي مسّت جل بلدان الوطن العربي خلال العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، وخرج الشارع الجزائري في مطلب أساسي واضح وصريح بعد إعلان ترشح الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، اعتبرتها المعارضة وشريحة كبيرة من السياسيين والمجتمع المدني، استفزازاً لمشاعر الجزائريين الذين ينتظرون التغيير بعد عقدين من الزمن، ضمن أربع فترات رئاسية متتالية، تراجعت فيها الجزائر على عدّة مستويات، وأصبحت رؤية رئيس الجمهوريّة أو سماع خطاباته مطلبا بعيد المنال.
بعد شهر ونصف من المظاهرات المليونية التي جابت البلاد، تدخّل رئيس الأركان الراحل عبد القادر بن صالح وطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور والتي تنص على أن يحل رئيس مجلس الأمة محل الرئيس مدة 45 يوما إذا تعذر عليه ممارسة صلاحياته بسبب الوفاة أو المرض، تم الإعلان بعدها عن تراجع بوتفليقة عن الترشح، وتأجيل الانتخابات، خلال هذه الفترة تطوّرت مطالب الحراك، فلم يعد تحقيق إسقاط العهدة الخامسة كافيا، خاصة بعد شغور منصب الرئيس، وتواصلت الاحتجاجات مطالبة بتغيير النظام كاملا، وإسقاط جميع رموزه، وما اشتهر في الشارع الجزائري بشعار “يتنحاو قاع”، ويعدّ الحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني)، أول من شمله هذا المطلب، غير أنه مازال يتصدّر المشهد السياسي، وهناك من يذكر الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون كرمز له باعتباره مناضلا سابقا في صفوفه، غير أنّه قدّم ملفّه للانتخابات الرئاسية كمترشّح حرّ، وفاز بالرئاسة بنسبة 58 بالمائة.
بعد الانتخابات الرئاسية التي قاطعتها بعض الجهات، وسكتت عنها بعض القوى السياسية، قدّرت فيها نسبة المشاركة ب ـ39.8 بالمائة، لم يعد الحراك بنفس القوّة التي كان عليها أوّل الأمر، فقد امتصّ النظام حنق الشارع وأعاد توازنه بفتح باب الحوار ومحاسبة عدد من رموز النظام السابق، وانخراط بعض أيقونات الحراك في مشاريع الحكومة الجديدة، كما أن افتقاده منذ انطلاقته إلى قيادة مركزية يُجمع عليها الشارع ويلتف حولها، أدّت إلى إفشاله وإضعاف صفوفه.
اعتمد النظام الجزائري شعار “الجزائر الجديدة” كصورة يظهر بها نوايا التغيير الذي كان ينشده الشعب من نزاهة انتخابات، وتفعيل دور الكفاءات الجزائرية لتحقيق التنمية الاجتماعية والازدهار الاقتصادي، لكن ما حدث يعبّر عنه قطاع كبير من المجتمع على أنه لم يعدُ أن يكون تغييرا للوجوه فقط، مع المحافظة على النظام ذاته. فيما يراه آخرون قد تحقق بالفعل وإن على حساب الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
المرحلة التي يمرّ بها الحراك اليوم هي أضعف مراحله منذ بدايته في 22 فبراير 2019 فهو يتواصل اليوم بعدد ضئيل جدا، يتمسّك به أصحاب النضال من أجل قضايا محدودة النطاق كما هو الحال بالنسبة لأصدقاء وعوائل معتقلي الرأي من شباب وطلبة ورموز، وعدّ هذا الأمر من الملفات التي تحسب على الحكومة الجديدة التي اعتمدت في قمع المظاهرات واعتقال الناشطين، على ما جاء في دستور 2020 الجديد من مواد مطاطة يمكن تكييفها مع أي سلوك صادر من النشطاء على أنّه تهديد للنظام العام، كتهمة التجمهر غير المسلّح دون رخصة.
تستمر الاحتجاجات وتواصل الدولة بالمقابل إصرارها على تحقيق المسار السياسي وتعزيزه عن طريق الانتخابات التشريعية هذه المرّة، حيث قاطعتها شريحة عريضة من المجتمع وشاركت فيها حتى المعارضة، وعرفت بنسبة مشاركة ضعيفة، صرّح رئيس الجمهورية أنها لا تهم، كما أن رئيس السلطة المستقلة للانتخابات لم يذكرها، واكتفى بتأكيد ما قاله أحد الصحافيين الحاضرين في مؤتمر الإعلان عن النتائج، مما جعل بعض الأحزاب تطالب بالإجابة عنها كتساؤل.
عرفت الانتخابات التشريعية 2021 مشاركة واسعة للقوائم الحرّة التي بلغ عددها 837 قائمة في مقابل 647 قائمة حزبية، ولاقت فئة الشباب الأقل من 40 سنة دعما ماديا بلغ 1800 دولار لتسيير حملاتهم الانتخابية.
وشهدت الحملة الانتخابية منذ بدايتها يوم 21 مايو جولات ميدانية للمترشحين والأحزاب السياسية لعرض برنامجهم السياسي وحشد الشارع، وتبرز على الساحة جلية أحزاب السلطة، حزب جبهة التحرير الوطني الذي طالب كثيرون بإحالته على المتحف السياسي باعتباره تراثا شعبيا مشتركا تعلق اسمه بجبهة التحرير الوطني، الحركة العسكرية التي قادت ثورة التحرير الوطنية، إلى جانب حزب التجمع الوطني الديموقراطي، الذي يعد حزبا داعما للسلطة منذ تأسيسه.
خلال الحملة الانتخابية، صرحت حركة مجتمع السلم باعتبارها أقوى حزب محسوب على المعارضة بأنها تراهن إلى أبعد الحدود على هذه المحطة الانتخابية في أن تكون على أعلى درجة من الشفافية، خاصة من خلال ما حمله قانون الانتخاب الأخير من إصلاحات هامة. وطرحت الحركة برنامجا انتخابيا سمّته الحلم الجزائري، يحمل في طياته خطة تنموية متكاملة يراها رئيس الحركة ومناضلوها باب النجدة التي تنشده الجزائر للخروج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
من جانب آخر صرح بن قرينة رئيس حركة البناء الوطني خلال عرضه لبرنامجه أن حزبه يمثل مقاربة المشاركة المقبلة في الحكم، ولابد من نموذج حكم جديد يعتمد على شرعية الصناديق.
استدعت السلطة الانتخابية المستقلة اللجان الانتخابية للتصويت يوم 12 حزيران وأظهرت النتائج النهائية تقدّم حزب السلطة التقليدي بـ 105 مقاعد في البرلمان، وصرح الأمين العام للحزب بعجي أبو الفضل أن من أراد إدخال “الافلان” إلى المتحف فقد أخطأ. وقال إن النتيجة هي رد على من قال أن الحزب انتهى، جوابنا أن الحزب تجدد و تمدد و لم يتبدد، نحن نراهن على التغيير و ها نحن نغير بمناضلين ذوي كفاءات، غيرنا ب 98 بالمائة لم يدخلوا البرلمان من قبل.
على غير العادة، استمر الفرز في بعض الولايات يومين جعلت الكثير من الأحزاب تتذمر من تأخر الإعلان عن النتائج وأبدت تخوفها من التلاعب بها، خاصة وأن بعضها لم يحصل على محاضر الانتخاب لعدة مراكز، وجاء إعلان السلطة المستقلة للانتخابات عن النتائج بعد 70 ساعة من انتهاء العملية الانتخابية عن طريق رئيسها محمد شرفي، لم يذكر فيها النسبة ولا عدد الأصوات المعبر عنها لكل حزب كما أنه صنف القوائم الحرّة ككتلة انتخابية، مساويا إياها بالأحزاب السياسية، وسماها بكتلة الأحرار، ليكون مركزها الثاني بعد حزب الأفلان المتصدر لتأتي بعدها حركة مجتمع السلم ب 64 مقعدا في المرتبة الثانية كحزب، وقد أشار لهذه النقاط وغيرها رئيس “حمس” خلال مؤتمر صحفي يوم 16 حزيران، قال فيه أنه يبرئ رئيس الجمهورية مما حدث من تجاوزات، ولا يتهم رئيس السلطة المستقلة للانتخابات لأنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من تغطية ومراقبة كل مراكز التصويت، لكنه في الوقت ذاته طالبه بالردّ على الطعون التي قدّمتها حركته، وأنكر عليه احتفاءه بالقوائم الحرة، وقال إنه كان من الأحرى الإشارة إلى ظاهرة عودة حزب جبهة التحرير الوطني إلى التصدّر، وأضاف في إطار العمل على تحقيق برنامج حركته أنه يسعى للتنمية الوطنيّة، والكفاح من أجل الحريات، وصيانة هويّة الوطن وسيادته، والقضاء على ما أسماه ببقايا العصابة وأنه سيقف جنبا إلى جنب مع كل من يريد القضاء عليها، كما ذكر هدفه لتحقيق استقلالية القضاء، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، ومناهضة التطبيع وعدم السماح بالاختراق الصهيوني كما قال أن النتائج المعلنة لا تمكن حزبه من قيادة الحكومة لكنه يهدف إلى إجراء حوار وطني حقيقي لخدمة البلد إذا ما كانت عروض المشاركة تتوافق مع رؤية حركته.
بعد الطعون التي قدّمت بدت استجابة العدالة الجزائرية لها وبدأت التحقيقات والمحاسبات على غير ما اعتاد عليه الشارع السياسي الجزائري من محسوبية ورشاوي كانت تضمن الصدارة لأحزاب النظام السابق، وقد أدانت محكمة الجنح بولاية تبسة 4 متورطين في قضيّة سرقة أوراق مخصصة للتصويت، بعامين حبسا نافذا وما قيمته 180 دولار غرامة. ويتابع قضائيا 7 أشخاص بتهمة التزوير وزيادة محاضر وأوراق الناخبين في ولاية المسيلة، إلى جانب استمرار التحقيقات في ولايات أخرى أيضا.
وإن دلّ هذا التحرّك على شيء فإنما يدلّ على نيّة السلطة في تحقيق العدالة والسّعي الحثيث لإنهاء عهد التزوير الذي عرفه النظام السابق، فرغم نسبة الانتخابات المعلن عنها والتي وصفها السياسيون والمراقبون بالضعيفة إلا أنها اعتبرت حقيقية عارية من التضخيم، خاصة وأن قانون الانتخابات الجديد لا يفرض نسبة محدّدة لاحتساب النتيجة أو إلغائها، ويسلّط عقوبات تصل إلى عشرين سنة سجن، وغرامات ماليّة للمتورّطين في التزوير، أو الذين يعيقون عملية التصويت وفرز الأصوات بأي شكل من الأشكال، كما أوضح المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا نجيب بيطام أن السلطة اليوم تتعامل بحياد تام مع العمليّة الانتخابية مع وجود إرادة سياسيّة وقضائيّة على تفعيل القانون بصرامة، والذي كان معطلا على مدى العقود السابقة.
في انتظار الإعلان النهائي عن نتائج الطعون والمحاكمات القضائية في حق المتهمين والمتورطين فيما صنف ضمن جرائم قانونية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة في الجزائر، يبقى الشارع السياسي الجزائري منقسما بين من يراهن على نية السلطة الجديدة في تحقيق العدالة السياسية والحياد المنشود، وتفعيل القانون، ومعاقبة الجناة، والتحرر من بقايا النظام السابق، الذي ظهر مرّة أخرى كما يراه كثيرون في تصدّر حزب جبهة التحرير الوطني، والتجاوزات الخطيرة الموثقة، والتي تعدّ كابوسا يلاحق الشارع الذي خرج من الحراك على أمل القضاء التام على الرابط التاريخي مع النظام الذي أسقطه في شخص رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة، وعدّة رموز أخرى، وبين من يجزم من جهة مقابلة على فقدان الأمل في تحقيق التغيير والجزائر الجديدة المنشودة بقيادة السلطة الجديدة والتي يرونها امتدادا واضحا لروح النظام السابق، بالأهداف ذاتها وإن اختلفت الآليات.