في ذكرى مذبحة سيربينيستا

دامت الحرب البوسنية التي خطط لها وأشعلها صرب البوسنة لمدة أربع سنوات (من مارس 1992 وحتى ديسمبر 1995)، وانضم إليها الكروات البوسنيون ، بدعم من القادة والنخب والمثقفين من صربيا و كرواتيا بهدف تقسيم البلاد فيما بينهم.
وبغرض تحقيق الهدف النهائي المتمثل بإنشاء “صربيا الكبرى”، ومع بداية الحرب مباشرة ، ارتكب الجيش الصربي والمرتزقة مجازر ضد المدنيين بما في ذلك الترحيل القسري والتعذيب والقتل الجماعي واقامة معسكرات الاعتقال، والتعذيب والعنف الجنسي الممنهج على يد القوات الصربية.
وخلال الحرب حددت الأمم المتحدة ست “مناطق آمنة” ، بهدف حماية المدنيين ، والحد من النزوح المحتمل للاجئين، وصولا الى الاستقرار الأمني، إذ كان لا بد أن تكون هذه المناطق منزوعة السلاح تمامًا ، وتم حث الناس على تسليم جميع الأسلحة التي لديهم، لكنها في الواقع تحولت إلى سجون للمدنيين من البوسنيين.
قام صرب البوسنة وبشكل مستمر بمنع وصول قوافل المساعدات الانسانية والطبية الى المدنيين في تلك المناطق وخاصة في سراييفو وغورازده.
ونتيجة لذلك أصبح الوضع الإنساني في تلك المناطق صعبًا للغاية متمثلا بنقص الطعام والوسائل الطبية اضافة الى قطع الكهرباء والماء، مع قيام القوات الصربية في نفس الوقت بقصف عشوائي في كثير من الأحيان على أهداف مدنية.
كانت سيربينيستا إحدى المناطق الآمنة التي تتواجد فيها قوات للأمم المتحدة ، وهي بلدة تقع بالقرب من الحدود مع صربيا ، ويعتبر نهر درينا حدًا طبيعيا يفصل بين البلدين.
بدأت القوات الصربية غزو سريبرينيتسا في 6 يوليو 1995 ، والذي تم التخطيط له بشكل كامل تحت قيادة الجنرال ملاديتش كقائد للقوات العسكرية وقوات المرتزقة من كل من البوسنة وصربيا.
ولم تقم قوات الأمم المتحدة المتواجدة هناك بحماية مئات الرجال والشباب الذين كانوا يسعون للحصول على المساعدة في القاعدة التابعة لتلك القوات في سريبرينيتشا ، كما تخاذلت الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة عن حماية المدنيين في المنطقة الآمنة، البالغ عددهم حوالي 50.000 شخص مدني أعزل، وقد تحملت الحكومة الهولندية لاحقا جزءا من مسؤولية هذه المذبحة .
في يوم 11 يوليو 1995 واليومين التاليين، أرتُكبت أسوأ مجزرة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد قامت القوات الصربية بصف أكثر من 8000 مسلم بينهم نساء ورجال وشيوخ وأطفال في أماكن الاحتجاز في سريبرينيتشا وما حولها، وقامت بإعدامهم جميعا، إذ كانوا يأخذونهم وهم معصوبي الأعين من معتقلاتهم مباشرة إلى مكان دفنهم، حيث يصفونهم ثم يقومون بإعدامهم.
ومن أجل إخفاء تلك الجريمة البشعة، تم دفن الجثث في أكثر من مكان في مقابر جماعية مختلفة، وهذا يوضح لنا السبب في كون أعداد الجثث التي عثر عليها غير مكتملة.
وعلى مدار عام كامل بقي دفن الجثث مستمرا كلما تم التعرف على الجديد منها، فقد تم دفن 6643 جثة حتى الآن من أصل 8327 شخصًا قتلوا في سريبرينيتسا ، بينما لا يزال العمل على تحديد هويات الضحايا واستكمال دفن الرفات مستمراً.
من جهتها قامت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بالتحقيق في الإعدام الجماعي في سريبرينيتسا وقضت باعتبارها إبادة جماعية، وعدتها المذبحة الاسوأ والجريمة الأكثر فظاعة التي ترتكب ضد المدنيين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
تلك المجزرة التي ارتكبت بحق المدنيين، كانت تحت قيادة راتكو ملاديتش ، قائد جيش جمهورية صربيا ، وكانت قوات المرتزقة وقتها تحت السيطرة المباشرة لوزارة الشؤون الداخلية في صربيا، وقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقاً الاتهام الى راتكو ملاديتش وغيره من الضباط العسكريين بارتكاب جرائم حرب بالإبادة الجماعية، وقد حكم عليه بالسجن بأكثر من 700 سنة بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى في سريبرينيتسا أمام المحاكم الدولية والمحاكم في البوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا، اضافة الى الحكم على 47 شخصا آخرين كونهم من صانعي القرار داخل القيادة ، وإصدار الأوامر وتنفيذ عمليات الإعدام، كما أصدرت المحاكم خمسة أحكام بالسجن المؤبد ، بما في ذلك الحكم على الجنرال ملاديتش.
ومع كل هذا فإن هناك محاولات لإنكار وطمس الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا في الوقت الحاضر ، أكثر من أي وقت مضى ، حيث يواصل بعض المؤرخين والسياسيين الصرب البوسنيين إنكار وقوع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في البوسنة، ويتم العمل على تشويه التاريخ من قبل منكري الإبادة الجماعية في البلد الذي حدثت فيه ، إذ لا يعتبر هذا الإنكار جرماً قانونيا.
وعلاوة على ذلك ، فغالبًا ما تُستخدم الإبادة الجماعية في سربرينيتشا كدافع ودعامة أيديولوجية لليمين المتطرف، واتخاذها كنوع من الإلهام لتلك الجماعات.
وتعد روسيا من أكثر الدول التي تنحاز إلى جانب صربيا في نفي و تزوير عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية في البوسنة، كما اعترضت روسيا على قرار للأمم المتحدة يدين مذبحة سربرينيتشا عام 2015 ، في حين تلقى القرار دعماً من قبل الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة، كما وصفت صربيا القرار “بالمناهض للصرب” وايدتها روسيا في ذلك.
إن الدرس الذي يمكن الاستفادة منه من خلال مجزرة سريبرينيتسا، أنه لا يوجد مجتمع محصن ضد التحيز والتعصب ، لذلك من الواجب على الشعوب أن تبقى يقظة ضد تلك القوى، وأن تتخذ إجراءات مباشرة لبناء مجتمعات أقوى وأكثر مرونة.