قرار ترامب بالانسحاب من سوريا

ملخص

على أثر مكالمة هاتفية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، أعلن ترامب في 19 كانون الأول/ديسمبر عن قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا والبالغ عددها في ذلك الوقت بحدود 2000 جندي أمريكي.
كان من المفترض أن يمثل القرار مناسبة لعودة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا والولايات المتحدة، وبداية لتعاون جديد بين البلدين اللذين تشهد العلاقة بينهما توتراً منذ فترة بسبب طبيعة دور تركيا الإقليمي والدولي، حيث تبلورت العديد من القضايا التي تحولت إلى ملفات عالقة بين البلدين.
إلا أن جهات من داخل الإدارة الأميركية اقنعت ترامب بأنه إذا كان مصراً على المضي بقرار الانسحاب فيجب عليه تغيير آلية تنفيذه، بحيث يضمن عدم تعرض تركيا للميليشيا الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، وأن على تركيا مشاركة “قوات سوريا الديمقراطية” في إدارة المناطق التي ستنسحب القوات الأمريكية منها (شرق الفرات)، وهو ما لاقى اعتراضاً كبيراً من الجانب التركي وحول القرار إلى محطة جديدة من محطات التوتر والأزمة بين الولايات المتحدة وتركيا، ودفع بتركيا للمضي قدماً في الابتعاد عن الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة والتعاون أكثر مع روسيا.
وليست العلاقة مع تركيا هي فقط ما تأثر بفعل الآلية التي يتم فيها تنفيذ قرار الانسحاب، ولكن وضع القوات الأميركية في سوريا التي تم تقليص عددها بدل انسحابها مما جعلها عرضة لخطر الهجوم من داعش أو غيرها من المجموعات المسلحة الموجودة على الأرض السورية والمعادية للولايات المتحدة بما فيها بعض المجموعات المرتبطة بإيران، كما أن الوضع المرتبك للعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا والتردد الأمريكي في الانسحاب من سوريا بالشكل الصحيح، يوفر الفرصة لعناصر داعش، لإعادة ترتيب الصفوف، ويضع الأطراف المختلفة بما فيها الطرف التركي أمام خيار الانفتاح على النظام في سوريا أكثر من أي وقت مضى، وفي نفس الوقت يعطي الفرصة لروسيا وإيران لدعم مصالحهما وتنفيذ رؤيتهما حول سوريا والشرق الأوسط.
مدخل
تخوض الولايات المتحدة وتركيا محادثات دقيقة حول كيفية التعامل مع شمال شرق سوريا على المدى الطويل، وهو أحد الأمور التي ربما يكون لها تأثير كبير على مستقبل سوريا ككل.
كجزء من هذه المحادثات -التي تحولت إلى مناسبة لتراشق الاتهامات أحياناً أو لاتهام الأطراف بعضها البعض بالنكوث بالعهود أحياناً أخرى-، جرت عدة لقاءات واتصالات بين الطرفين التركي والأمريكي لمناقشة تفاصيل المنطقة الآمنة الخاضعة للإشراف التركي في شمال شرق سوريا.
كان من المفترض أن يمثل الانسحاب الأمريكي من سوريا بداية عودة العلاقات الطبيعية بين الولايات المتحدة وتركيا، ولكنه بطريقة ما تحول إلى أزمة بين عضوي الناتو بسبب قضايا عالقة في مقدمتها مصير المجموعات الكردية المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة.
فبينما تريد واشنطن ضمان حماية حليفتها المحلية الرئيسية (وحدات حماية الشعب والتنظيمات المرتبطة بها) ضد داعش، ترفض أنقرة الاحتفاظ بمنطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي على حدودها الجنوبية، لأن أنقرة ترى أن وحدات حماية الشعب ما هي إلا واجهة محدثة عن حزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف على أنه جماعة إرهابية.
ما أثار حفيظة تركيا بشكل كبير هو الموقف الذي أعلنه مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جون بولتون في 6 كانون الثاني/يناير 2019، وقال فيه: أن الولايات المتحدة ستضمن أن تركيا لن تهاجم المقاتلين الأكراد الذين تعتبرهم الولايات المتحدة شركاء في الحرب ضد داعش.
قرار الانسحاب من سوريا الذي أعلنه ترامب في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، لقي ترحيباً من كل من روسيا وتركيا وإيران والنظام في سوريا، بينما اعترضت ميليشيا “قسد” على القرار واعتبرته تخلياً عنها وقالت قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب العمود الفقري لها، إنها لن توافق أبدًا على أي منطقة آمنة تسيطر عليها أنقرة، معلنة أنها لن تقبل سوى “منطقة عازلة تحت رعاية الأمم المتحدة”، أما الأوربيون فقد عبروا عن عدم رضاهم بالمجمل حيث قالت بريطانيا أن داعش لم يهزم بعد بينما أكدت باريس عبرت على التزامها العسكري في سوريا إلى حين هزيمة التنظيم بالكامل. أما ألمانيا فقالت أن الانسحاب الأمريكي قد يضر بالمعركة ضد تنظيم داعش.
اليوم وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على بدء حملة التحالف ضد داعش، لازال الخلاف قائماً بين واشنطن وأنقرة حول: على من يتم الاعتماد للتعامل مع تنظيم داعش وكيف، وبغض النظر عن حجم الخدمة والتعاون الذي قدمته وحدات حماية الشعب للولايات المتحدة، فإن هناك قناعة سائدة لدى الأطراف بأن رغبة وحاجة واشنطن للحفاظ على مكانة تركيا في المنطقة والاحتفاظ بعلاقة من نوع ما معها، ستدفع الولايات المتحدة في النهاية إلى الميل باتجاه تركيا والقبول بشروطها.
ولذلك يجد المخططون العسكريون الأمريكيون أنفسهم في سباق مع الزمن لإيجاد شريك إقليمي، وحتى ذلك الحين، سيكون لدى واشنطن العديد من الأسئلة الصعبة التي يجب بحثها حول كيفية إدارة انسحابها وتبعاته، بطريقة تراعي مصالحها ومصالح شركائها في المنطقة.
بدأ تواجد القوات الأمريكي في سوريا في أواخر 2015، ثم ما لبث أن ازداد ليصل إلى 500 جندي في نهاية 2016، ثم ازداد العدد حتى وصل إلى 2000 جندي في أواسط 2018 وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 أعلن ترامب قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا، ثم عاد وكرر في 7 كانون الثاني/يناير: أن خطته الأولية لسحب القوات العسكرية من سوريا لم تتغير، بعدها بفترة قصيرة (22 شباط/فبراير 2019) قال ترامب أنه عدل خطة الانسحاب وقرر الإبقاء على 400 جندي أمريكي في سوريا 200 منهم في شرق الفرات و200 آخرين في المنطقة قرب قاعدة التنف.
لدى إعلان ترامب قرار الإنسحاب من سوريا في 19 ديسمبر 2019، كانت القوات الأمريكية تتواجد في النقاط التالية:
- مطار الرميلان: بمحافظة الحسكة قرب الحدود مع تركيا والعراق
- قاعدة الشدادي الواقعة بين محافظتي الرقة ودير الزور، وقرب نهر الخابور
- منطقة كوباني (عين العرب) الواقعة على الحدود العراقية التركية.
- قاعدة المبروكة: في الحسكة.
- قاعدة تل البيدر: في الحسكة.
- قاعدة عسكرية في بلدة “تل أبيض” التابعة للرقة.
- قاعدة عسكرية عند حقل معمر النفطي قرب مدينة الميادين بدير الزور.
- قاعدة التنف عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.
- قاعدة الزكف على بعد 70 كيلومترا إلى الشمال الشرقي من قاعدة التنف.
استراتيجية التحالف لهزيمة داعش
عندما تم تأسيس التحالف للقتال ضد داعش كان الأكبر من نوعه في التاريخ: 75 دولة وأربع منظمات دولية.
تم تطوير إستراتيجية تدمير داعش في عهد أوباما ثم تم تنفيذها مع تعديلات طفيفة، في ظل ترامب. وترتكز في الأساس على تمكين المقاتلين المحليين من استعادة مدنهم من داعش ومن ثم تهيئة الظروف لعودة النازحين.
في البداية، افترضت الاستراتيجية التي تم اعتمادها لعمل التحالف، أن الولايات المتحدة ستبقى نشطة في المنطقة لفترة بعد تدمير “الخلافة”، بما في ذلك استمرار التواجد على الأرض في شمال شرق سوريا.
في أواخر ديسمبر 2018، حدث تغيير كبير في هذه الاستراتيجية، فبعد مكالمة هاتفية مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، أصدر ترامب أمرًا مفاجئًا بسحب جميع القوات الأمريكية من سوريا. ثم قام ترامب بعد ذلك بفترة قصيرة بتعديل هذا الأمر أو لتتمثل في بقاء حوالي 200 جندي أمريكي في شمال شرق سوريا و200 آخرين في التنف -وهي قاعدة في جنوب شرق سوريا- على أمل أن تحل قوات تابعة لأعضاء التحالف الآخرين محل القوات الأمريكية المنسحبة، وهو ما لم يحدث إلى الآن وبالتالي فإن قرار ترامب يعني أن تتولى مجموعة صغيرة من القوات الأميركية (400 جندي)، مهمة تتطلب عشرة أضعاف هذا العدد في سوريا.
وبغض النظر عن حجم القوات الفعلي الذي سيبقى فإنه لم يكن من المرجح أن يتراجع ترامب عن قراره وبالتالي فإن ما يجب التعامل معه بالنسبة لمختلف الأطراف هو تبعات المضي في هذا القرار وما يترتب عليه وأول هذه التبعات هو تغير الأهداف العامة التي وجد التحالف من أجلها وتواجدت القوات الأميركية على الأرض السورية لتحقيقها.
وبحسب ما كتب “بريت ماكغورك”، فإن الأهداف الأساسية لاستراتيجية التحالف في سوريا تتلخص بمنع عودة داعش، ومراقبة طموحات تركيا، واحتواء الوجود الإيراني، وردع تهديداتها لإسرائيل، واستخدام الدبلوماسية لزراعة “إسفين” بين طهران وموسكو، والتفاوض مع روسيا على تسوية مناسبة.
ولكن ومع مغادرة القوات الأمريكية لسوريا، فقد تم تقليص هذه الأهداف الأساسية إلى منع داعش من الظهور مجدداً، ومنع إيران من إقامة وجود عسكري محصن يهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها (إسرائيل).
ولتنفيذ هذه الأهداف الجديدة بدون وجود عسكري على الأرض، يجب على الولايات المتحدة أن تتقبل فكرة التحالف والتعاون مع تركيا والتنازل لشروطها بدل الصدام معها وإضعاف دورها في المنطقة.
أما بالنسبة للعلاقة مع الروس، فقد كانت الأولوية الرئيسية للدبلوماسيين الأمريكيين هي التوصل إلى تسوية مع القوة العظمى الأخرى الوحيدة في سوريا (روسيا)، حول المصير النهائي للأراضي الواقعة في منطقة النفوذ الأمريكية، وكانت نقطة القوة التي يعتمد عليها في هذا الأمر الوجود الأمريكي العسكري على الأرض الذي كان من المفترض أن يمثل ورقة ضغط لصالح الولايات المتحدة للتفاوض وفق شروط معقولة مع الروس.
وكانت استراتيجية التحالف قبل قرار ترامب قد اتخذت بعداً سياسياً عندما بدأ الدبلوماسيون الأمريكان في خريف 2018 الاستعداد لمفاوضات مكثفة مع الروس على مسارين: الأول “مسار جنيف” والذي كانت واشنطن تأمل من خلاله أن يقوم الروس بإجبار النظام السوري على التعاون لتنفيذ مقررات هذا المسار والتي تدعمها الأمم المتحدة، أما المسار الثاني فقد كان يتضمن تفاوضاً مباشراً مع الروس للتوسط في صفقة بين قوات سوريا الديمقراطية(قسد) والنظام السوري تتضمن عودة النظام بشكل جزئي للمناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” في مقابل منح حق القرار السياسي الأساسي لقسد. وهو ما اعتبره المسؤولون الأمريكيون “عودة الدولة، وليس عودة النظام”. مع التأكيد على أن أي اتفاق يجب أن يتضمن ما من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى المجال الجوي والمنشآت العسكرية الصغيرة في هذه المنطقة (شرق الفرات) من أجل استمرار الضغط على داعش ومنع التنظيم من العودة.
هل تتكرر تجربة الانسحاب الأمريكي من العراق
في عام 2011 وبأمر من الرئيس أوباما انسحبت القوات الأميركية من العراق بعد التعاون مع ما عرف بـ “الصحوات” لتكبيد تنظيم القاعدة في العراق خسارة فادحة، وفي غضون ثلاث سنوات فقط، عاد التنظيم للظهور والسيطرة على مساحات شاسعة في سوريا والعراق، مستغلّاً الفوضى في سوريا والتوترات الطائفية وانهيار القوّات العسكرية العراقية ليعلن عن تأسيس دولة في يونيو 2014.
الذي حدث لدى الانسحاب الامريكي من العراق في 2011 أن إيران كانت مستعدة لمليء الفراغ الذي خلفه الأمريكان لتقوم بترسيخ وكلائها واتباعها وتقويتهم، وهو ما تمت ترجمته في العراق إلى مزيد من قمع السنّة العرب وإنشاء مؤسّسات حكومية موازية وبروز ميليشيات شيعية طائفية مدعومة من إيران، فتمخّض عن ذلك كلّه ظلم وظروف أتاحت بروز تنظيم داعش في العام 2014.
بعبارة أخرى، يُعتقد أن ترامب ينسحب من سوريا بطريقة يرتكب خلالها الأخطاء عينها التي ارتكبها أوباما. مما يتيح لتنظيم داعش إعادة إنعاش نفسه في الأشهر والسنوات المقبلة، وإلى إعادة ابتكار ذاته واستعادة السيطرة على أراضٍ تسود فيها بيئات من الصراع قد تساعد المجموعة على البروز مرة أخرى. وسيحظى تنظيم داعش وغيره من المتطرّفين بحرّية أكبر في حشد الاتباع.
أما بالنسبة لإيران، فستحظى بقدرة فريدة على رسم معالم المشهد السياسي في سوريا نتيجة انسحاب ترامب، كما سيمنحها مساحة أكبر لاستئناف الجسر البرّي الذي لطالما سعت إليه والذي يربط طهران ببيروت والمتوسّط.
المتغير المختلف اليوم عن تجربة العراق هو تركيا، التي تقدم نفسها كقوة قادرة على ضبط الأوضاع واستئناف محاربة داعش ومنع ظهوره من جديد وفرض الأمن والاستقرار، في مقابل استمرار الدور التركي وتعزيز المكانة التركية في الشرق الأوسط وعلاقة الشرق والغرب معها كلاعب دولي وإقليمي أساسي.
وهو ما سيشكل اختباراً صعباً للقدرات التركية، التي استطاعت إلى حد كبير تنفيذ هذه المهمة في الشمال السوري -في منطقة درع الفرات ومنطقة غصن الزيتون-، ولكن كلا التجربتين على أهميتهما، فالمهمة فيهما أسهل كثيراً من منطقة شرق الفرات التي تمتد لمساحة أوسع وفيها تداخلات وتواجدات دولية وإقليمية واعتبارات أكثر تعقيداً.
جوهر الخلاف مع تركيا
يتلخص جوهر التوتر بين تركيا والولايات المتحدة في طموح تركيا للعب دور أكثر ندية إلى جانب الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، وقد عبر الرئيس أردوغان عن ذلك مراراً في خطاباته وفي مقالات كتبها ونشرتها الواشنطن بوست وصحف أمريكية أخرى حول المشكلة والتوتر بين تركيا والولايات المتحدة.
من وجهة نظر الولايات المتحدة فإن تركيا شريك صعب المراس لا يستجيب بسهولة للطلبات -التي يعتبرها الأتراك أوامر الأميركية-.
كانت الولايات المتحدة تريد من تركيا لعب دور معين في الحرب على داعش وبطريقة معينة، بدأت التوترات تبلغ مداها في بداية 2014 عندما طلب أوباما من تركيا ضبط حدودها مع سوريا متهماً إياها بالسماح بمرور مقاتلي داعش بحرية للتنقل عبر الحدود.
بعدها وفي نفس العام (2014) عندما اشتدت معركة كوباني، عارضت تركيا الطريقة التي تدير فيها الولايات المتحدة المعركة، وطريقة تقديم الدعم و الجهات التي يتم التعاون معها والاستراتيجية الخاصة بالولايات المتحدة بالكامل.
بعد ستة أشهر من معركة كوباني رفضت تركيا طلباً من إدارة التحالف لإغلاق حدودها مع سوريا.
بعدها بعدة أشهر بدأت الولايات المتحدة شراكة رسمية مع وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، وساعدتهم على تجنيد عشرات الآلاف فيما أصبح يعرف فيما بعد بقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما اعترضت عليه تركيا بشدة وكررت ولا زالت تكرر اعتراضها في كل المناسبات.
خلال هذه الفترة أرسلت واشنطن عدداً من الاستراتيجيين العسكريين إلى أنقرة للتباحث حول خطة لتحرير الرقة بالاعتماد على مقاتلين من المعارضة السورية ولكن هذه المباحثات لم تفض إلى نتائج، حيث تبين أن خطة تحرير الرقة بالمشاركة مع تركيا ستتطلب مشاركة 20 ألف جندي أمريكي على الأرض وهو ما رفضه كل من أوباما ثم ترامب.
وفي مايو 2017، اتخذ ترامب قراراً بتسليح وحدات حماية الشعب بشكل مباشر لتضلع بمهمة “تحرير الرقة” من داعش.
يعتقد الأمريكيون اليوم أن تركيا وأردوغان لا يحركهم في سوريا والمنطقة دوافع سياسية عادية، وإنما طموحات توسعية تتضمن إعادة رسم الحدود التركية وتصحيح ما يعتبره أردوغان الخطأ الذي ارتكب في معاهدة لوزان 1923، وهم يتعاملون معهم على هذا الأساس، ويرون التحركات التركية من هذا المنظور.
بينما تؤطر تركيا كل قراراتها وسياستها تجاه سوريا والمنطقة بالأمن القومي التركي وحماية تركيا وحدودها على المدى القريب والبعيد، وفي نفس الوقت تتهم تركيا الولايات المتحدة بدعم تنظيمات إرهابية وإيواء إرهابيين مطلوبين للعدالة الدولية(غولن)، كما تتهم الناتو -الذي تديره الولايات المتحدة عملياً- بالتنصل من مسؤولياته تجاه تركيا والتخلي عنها في وقت الحاجة -كما حصل في أزمة منظومة الدفاع الصاروخي.
كيف تحاول أنقرة ترتيب العلاقة مع واشنطن
يعتقد الأتراك أن الحوار المباشر بين ترامب وأردوغان يمكن أن يكون له نتائج إيجابية على اعتبار أن هناك فرق بين الحديث مع ترامب والحديث مع رجال ترامب، مستندين إلى بعض الشواهد والمناسبات التي أدّى الحديث المباشر فيها بين الرئيسين إلى تطور إيجابي من نوع ما، وقد نوه الرئيس أردوغان إلى أحياناً مثل التصريح الذي قال فيه: “يمكننا الحصول على نتيجة من المحادثات مع السيد ترامب، وهذا ما لم يكن متاحًا في السابق”، كما دعا الرئيس أردوغان ترامب لزيارة أنقرة.
وقد أثمرت بالفعل بعض التواصلات المباشرة بين الرئيسين بتخفيف حدة التوتر مثل الاتصال الذي جرى في 2 نوفمبر 2018 وكان من نتائجه أن قامت الولايات المتحدة برفع العقوبات عن وزيرين تركيين وأنقرة ردّت بالمثل، وأيضاً الاتصال الذي جرى في 15 يناير 2019 والذي أنتهى بأن قام ترامب بتغيير تغريدته التي هدد فيها تركيا بكارثة اقتصادية إلى تغريدة أخرى تحدث فيها عن التعاون الاقتصادي مع تركيا.
أما على صعيد المبادرات فقد قدمت تركيا من جانبها بادرتين رئيسيتين على أمل أن يلقيا اهتماماً فعلياً من الولايات المتحدة الأولى: هي إعلان تركيا استعدادها لشراء منظومة باتريوت الأمريكية، وهو ما لم يلق الاهتمام الكافي من الولايات المتحدة لدرجة أن أول رد رسمي بخصوص هذه البادرة من طرف الولايات المتحدة جاءت بعد عامين تقريباً من الحديث التركي بهذا الشأن
أما البادرة الثانية فكانت التعهد بمحاربة أي ظهور لتنظيم داعش في سوريا وهو ما أبدت الولايات المتحدة اهتماماً به ولكن عملياً لازال اعتماد الولايات المتحدة قائماً بشكل كامل على قوات سوريا الديمقراطية.
وفي سياق الحديث عن المبادرات بين الطرفين لتخفيف حدة التوتر فقد أبدت تركيا استعدادها لرفع التجارة مع الولايات المتحدة، حيث جرى الاتفاق بين الرئيسين على العمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية ورفع التجارة البينية من 22 مليار دولار إلى 75 مليار دولار سنويا.
وفي المقابل تلوح تركيا كثيراً بمخاطرة عدم التنسيق معها وتجاوزها، وتؤكد على أن تجاوز تركيا في المسألة السورية يعني التنسيق مع روسيا وهو ما سيفضي إلى تسليم الشمال السوري وباقي مواقع المعارضة إلى النظام في سوريا وإيران.
وفي نفس الوقت تلوح تركيا باستمرار بخيار الحملة العسكرية واحتمالية قيامها باجتياح واسع على الحدود الجنوبية التركية، ولكن وبالرغم من أن التواجد الميداني الأمريكي في المنطقة قليل نسبياً، ولكن من الواضح أن تركيا لا تريد المخاطرة بحدوث صدام عسكري من أي نوع مع القوات الأمريكية، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً أمام القيام بأي عمليات عسكرية تركية في المنطقة ويقلل كثيراً من احتمالية المضي بهذا الخيار لى الأقل ضمن المعطيات الحالية للوضع في سوريا وتركيا.
اختلاف الأولويات
سلط قرار ترامب المتعلق بالانسحاب من سوريا، الضوء على الخلاف الكبير في أولويات الأطراف المتصارعة والمتدخلة في سوريا، فلا تزال سوريا -حتى لحظة كتابة هذه السطور- منطقة للتنافس بين القوى كروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وتركيا للصراع من أجل النفوذ.
وبينما تعارض كل من تركيا والولايات المتحدة -رسمياً على الأقل- نظام الأسد، فإنهما يختلفان حول الأولوية التي يجب العمل عليها، فتعطي الولايات المتحدة الأولوية للحرب ضد داعش وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا أو إنهائه، بينما تركز تركيا -التي تشعر أن أمنها القومي مهدد-، على القضاء على الميليشيا الكردية المسلحة المرتبطة بحزب العمال الكردستاني وحماية حدودها والتوغل إلى الأمام بما يضمن أمنها بشكل نهائي.
الأمر نفسه يتكرر بين روسيا وإيران اللتان تقفان إلى جانب الأسد ولكن كل بطريقته، فبينما تتجسد أولوية إيران هي بإعادة الوضع في سوريا على ما كان عليه قبل 2011، فإن أولوية روسيا تتضمن التعامل مع الوضع القائم وتثبيت سيطرة النظام من جديد في سوريا ولكن مع إحداث تغييرات أساسية في نظام الحكم قد تتضمن إضعاف دور بشار الأسد ومنظومته الأمنية لصالح منظومة جديدة ليس لدى روسيا مشكلة في الاعتماد عليها في المنطقة.
في كل الأحوال فلا يبدو أن أحداً من الأطراف المعنية في الحالة السورية يضع مسألة رحيل الأسد كأولوية -على الأقل ظاهرياً- عدا شريحة واسعة من السوريين أنفسهم الذين ما زالوا يصرون على رحيل الأسد ونظامه وبلورة نظام حكم جديد في سوريا، يتناسب وتطلعاتهم.
هذا الخلاف في الأولويات بين أطراف أساسية في الصراع يحدّ كثيراً من جدوى أي تحرك بخصوص سوريا ويحوله إلى مناسبة للشد والجذب بين الأطراف، ويضفي عليه مجموعة كبيرة من الحسابات المعقدة تؤدي غالباً إلى تحييده عن غايته الأصلية، وهو ما حصل فعلياً في حالة قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا -الذي اتخذه ترامب تحت ذريعة غياب المبرر للاستمرار في البقاء في سوريا بعد ضعف تنظيم داعش وانتهاء تهديده-، كما حصل في مسار جنيف وأستانة وسوتشي وغيرها من المبادرات ومشاريع الحل في الحالة السورية.
تبدو اليوم التبعات الحقيقية لقرار الانسحاب غامضة، بين من يعتقد أنه تم تفريغه من محتواه بالفعل خصوصاً بعد تعديل الانسحاب ليتضمن بقاء 400 جندي، وبين من يعتبر أن له تبعات خطيرة هي اليوم أكبر حتى مما كان يبدو لحظة اتخاذ القرار، وفي كلا الحالتين فإن القرار قد اتخذ منحى معقداً في أبعاده أعقد بكثير مما كان يراد منه لحظة اتخاذه.
استراتيجية أمريكية جديدة من عشرة نقاط
مؤخراً نشرت صحيفة الشرق الأوسط نقلاً عن مصادر دبلوماسية مطلعة، معالم استراتيجية أمريكية جديدة تتضمن عشر إجراءات وتحاول تحقيق ثلاثة أهداف وتعالج أربعة تهديدات قادمة من سوريا.
بالنسبة للإجراءات العشرة التي تتضمنها الاستراتيجية الجديد المقترحة فتتضمن: البقاء في سوريا بالتنسيق مع الأوربيين، ومنع إيران من ملء الفراغ الذي يمكن أن ينشأ من أي عملية تقليص أو انسحاب من المنطقة، والحفاظ على حالة عدم الصدام بين قوات روسيا والولايات المتحدة، ودعم الموقف الإسرائيلي في ضرب المواقع الإيرانية في سوريا، ومنع الدول العربية من التطبيع الثنائي أو الجماعي مع النظام في سوريا، وعدم الانخراط في عمليات اعمار في سوريا الا بتحقق الشروط الأمريكية، وعدم اعطاء شرعية للنظام السوري في المحافل الدولية المختلفة، والضغط على مختلف الجهات لعدم التعامل مع الخطة الروسية لعودة اللاجئين السوريين قبل توفر الظروف الملائمة، وتوجيه ضربات مركزة على مواقع للنظام في سوريا في حال استخدامه للسلاح الكيمياوي، واعتبار الكلور من الاسلحة الكيمياوية
من المفترض أن هذه الإجراءات ستساهم في تحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي: عدم عودة تنظيم داعش، ومواجهة نفوذ إيران، والدفع لحل سياسي في سوريا.
بينما تعتبر هذه الاستراتيجية أن هناك أربعة تهديدات رئيسية قادمة من سوريا هي: الإرهاب مثل (داعش) و(القاعدة) وما يتفرع عنهما من جماعات أخرى، وإيران التي ، وروسيا التي غيّرت ميزان القوى في سوريا على حساب الشعب السوري، وحزب الله اللبناني الذي يعمل على إنشاء تواجد عسكري على الحدود بين إسرائيل وسوريا.
ولمواجهة هذه التهديدات تقترح الاستراتيجية الجديدة اتخاذ ثلاث خطوات هي: تبني حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، والضغط على إيران وروسيا في سوريا، لتقييد أنشطتهما المزعزعة لأمن واستقرار المنطقة، وزيادة الضغط على حزب الله، عبر التنفيذ الكامل والقوي لقانون منع التمويل الدولي للحزب.
صراع التوجهات
رغم كل التعقيد وحساسية الوضع في سوريا فلا يمكن غض الطرف عن كيف أصبحت سياسات وتحركات كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسيلة ذات أثر على الناخب المحلي، علماً أن تعامل كلا الطرفين مع هذه القضية الحساسة بهذا الشكل بالتأكيد ينطوي على مخاطر كبيرة.
بالنسبة إلى ترامب، فإن الانسحاب هو أحد الوعود التي قدمها في حملته عندما تعهد بالحد من البصمة العسكرية العالمية للولايات المتحدة وسحب القوات الأمريكية من التشابكات الأجنبية، وبالتالي فإن الانسحاب من سوريا من المفترض أن يرضي الناخب الأمريكي. ولكن كما تبين فيما بعد فذلك كان رأي ترامب وحده، بينما من حوله من أعضاء إدارته منقسمين إلى رأيين مختلفين (بالاضافة إلى توجه ترامب نفسه):
الأول مع استمرار التواجد وحتى تعزيزه قليلاً ولكن ليس لخوض مواجهة مع طرف معين وخصوصاً إيران، ولكن لضمان قدرة الولايات المتحدة على التأثير واستيعاب تبعات ما يجري في المنطقة بشكل مناسب ويمثل هذا التوجه إلى حد كبير قادة عسكريون في البنتاغون ومستشارون عسكريون، أما التوجه الثاني فيمثله إلى حد كبير وزير الخارجية الحالية (بومبيو) و مستشار الأمن القومي (بولتون) اللذين يدفعان باتجاه التصعيد مع إيران ويطالبان دائماً بإجراءات أكثر حزماً معها ويسعيان ليس إلى استيعاب أو تحجيم أو الحد من الوجود الإيراني في سوريا وإنما إلى القضاء على الوجود الإيراني في سوريا ويطالبان بانسحاب إيراني كامل من سوريا والمنطقة كما صرح وزير الخارجية بومبيو في بعض المناسبات.
وبرأيهما (بومبيو وبولتون) فإن الانسحاب الفوري سوف ينتج عنه 3 سلبيات على الأقل:
- سيشجع خلايا داعش للعودة والعمل من جديد.
- سيترك سوريا مفتوحة أمام النفوذ الإيراني والروسي بدون منازع.
- سيعطي الفرصة لتركيا لتمارس طموحاتها التوسعية بدون رقيب.
يعتبر كل من بومبيو وبولتون أن الحد من تأثير الخصوم في المنطقة أحد الأهداف الاستراتيجية التي يجب أن تتحقق ويعتبرون الانسحاب بالشكل الذي طرحه ترامب باديء الأمر هو عملية حرق للشركاء وليس تحجيماً للخصوم، وبالتالي فهم يسعون إلى تعديله أو الالتفاف عليه بما يتناسب ورؤيتهما لما يجب أن يحدث في سوريا.
هذا الصراع حول الانسحاب وآليته أدّى إلى الوضع الحالي الذي انتهى إليه شكل التواجد الأمريكي في سوريا، والذي يتضمن بقاء 400 جندي أمريكي في سوريا لا يسمح للولايات المتحدة بلعب الدور أو تحقيق الأهداف التي كان تتحدث عنها أو كان يتحدث عنها بعض أعضاء الإدارة الأمريكي قبل قرار الانسحاب وفي نفس الوقت يترك الولايات المتحدة عرضة للهجوم من قبل عناصر داعش – وهو ما حدث عدة مرات خلال الأسابيع القليلة الماضية-.
أما بالنسبة لتركيا فإن مسألة بقاء الميليشيات الكردية لم تكن أبداً على قائمة القضايا المطروحة في الحديث الذي دار بين ترامب وأردوغان ولا في الترتيبات واللقاءات التي جرت بين تركيا والولايات المتحدة طوال السنين الماضية، وعلى العكس فقد كان أردوغان مرتاحاً للنقاشات التي جرت مع ترامب بخصوص شرق الفرات وآخرها المكالمة الهاتفية التي انتهت إلى قرار ترامب بإعلان الانسحاب.
والارتياح التركي بل والحرص على الانسحاب أمر مفهوم، فهو يفسح المجال للقيام بعمليات واسعة عسكرية وأمنية ضد الميليشيات المسلحة الكردية التي تعتبرها تركيا خطراً على الأمن القومي التركي ومستقبل تركيا، بالإضافة إلى ذلك فإن الانسحاب الامريكي يعطي تركيا فرصة للعب دور أكثر فاعلية في الملفات الأساسية في المنطقة وفي مقدمتها داعش ، ومنطقة شرق الفرات في سوريا ، وملفات الأخرى تتعلق بالعراق والعلاقة مع إيران وغيرها من دول المنطقة.
وفيما يبدو أنه محاول لتهدئة المخاوف الأميركية وقطع الطريق أمام الطرحات التي تدعي نية تركيا ارتكاب إبادة من نوع ما بحق الأكراد، نشر الرئيس إردوغان في 7 كانون الثاني/يناير مقالاً في نيويورك تايمز، قال فيه أن تركيا لا تنوي قتل الأكراد ولكنها تريد القضاء على العناصر المتطرفة، التي تمثل خطراً على تركيا وعلى حلف الناتو ايضاً، سواء كانت هذه العناصر من تنظيم داعش أو وحدات حماية الشعب، ومضى أردوغان بالقول إن تركيا ستكون مهتمة وعاقدة العزم على ضمان إنشاء مجموعة تمثيلية من المجالس المنتخبة ودعمها من قبل قوة لتحقيق الاستقرار لضمان أن يكون للأكراد رأي في الحكم الديمقراطي في شمال سوريا.
وسواء كان انسحاب الولايات المتحدة من سوريا يتضمن ضمانات للميليشيات الكردية أو لا يتضمن ففي كلا الحالتين ونظرأً لما آلت إليه الأمور بخصوص الانسحاب الامريكي من سوريا والعلاقة مع تركيا فإن مزيداً من التدخل التركي العسكري في سوريا سيستوجب مزيداً من التنسيق مع روسيا -حليف تركيا في معظم تحركاتها الميدانية في سوريا- وبالتالي وفي حال استمرار الولايات المتحدة في محاولاتها لتحجيم تركيا فقد تصبح تركيا في وضع لا يسمح لها بالاستمرار في تحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية والإقليمية إلا بالتنسيق مع نظام بشار الأسد، وإن كانت تركيا تُظهر تمنعاً كبيراً أمام هكذا طرح الآن ولكن قد يصبح هذا هو الخيار الوحيد المتاح في وقت ما.
فالوضع المرتبك للعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا والتردد الأمريكي في الانسحاب من سوريا بالشكل الصحيح والتنسيق مع تركيا والاعتماد على الميليشيا الكردية بدلاً منها، يوفر الفرصة لعناصر داعش، لإعادة ترتيب الصفوف والسيطرة على الأرض السورية، ويدفع بالاطراف المختلفة بما فيها الطرف التركي للانفتاح على النظام في سوريا، ويعطي المساحة اللازمة لروسيا وإيران لدعم مصالحهما وتنفيذ رؤيتهما حول سوريا والشرق الأوسط الكبير.
خاتمة
هناك ثلاث عوامل أساسية تؤثر بشكل مباشر على تنفيذ وتوقيت وشكل الانسحاب الأمريكي من سوريا أولها هجمات داعش الارتدادية وقدرة “قسد” على مواجهتها: فأحد الدوافع الأساسية للانسحاب من سوريا هو الانتصار المزعوم الذي تحقق على تنظيم داعش، ولكن الهجمات التي يشنها التنظيم بشكل مستمر منذ اليوم الأول لإعلان الانتصار عليه، تقوض هذا المبرر وتثبت أن التنظيم ما زال يشكل تهديداً خطيراً في المنطقة، ومع ذلك فإن هذه العمليات التي يشنها التنظيم قد تكون عاملاً مسرعاً لانسحاب الجندي الأمريكي الذي لا يجد مبرراً ليكون في مرمى النار بينما توجد ميليشيا تجاوز عدد منتسبيها رسمياً ال 60 ألف، تم تأسيسها ودعمها مالياً وعسكرياً للقيام بهذه المهمة، بالاضافة إلى “عروض” من معظم الجهات الأخرى: الأتراك والروس والنظام والإيرانيين لتولى مسؤولية هذا الملف في مقابل انسحاب الولايات المتحدة.
أما العامل الثاني فهو موقف تركيا من الميليشيا الكردية المدعومة من الولايات المتحدة: إذ يبدو واضحاً إلى اليوم أنه وبرغم الاختلاف بين أطراف الإدارة الأميركية حول آلية وتوقيت الانسحاب الأمريكي إلا أن مسألة حماية الميليشيا الكردية المدعومة من الولايات المتحدة واحدة من الأمور المتفق عليها بين هذه الأطراف، وفي نفس الوقت هي نقطة خلاف كبير مع الطرف التركي، ومسألة لا يبدو أن الأتراك ينوون إظهار أي مرونة بخصوصها، وبالتالي فإذا أرادت الولايات المتحدة الإصرار على حماية الوجود الميليشياوي الكردي المدعوم من قبلها فهي مضطرة للتراجع عن الانسحاب الكامل والبقاء في سوريا، وهو ما سيجعلها في مواجهة تحديات أخرى ليست بالهينة في مقدمتها الوجود الإيراني.
أما العامل الثالث فهو مصير منطقة شرق الفرات وضمان عدم تمدد إيران أو النظام في المنطقة، وهذا يترك الولايات المتحدة أمام خيارين الأول هو استمرار سيطرة المجموعات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة على المنطقة وترسيخ وجودها إداريا وأمنيا وحتى سياسياً -وهذا يجري الآن عبر مبادرة هذه المجموعات إلى تشكيل ما يعرف بالادارة الذاتية وفتح مؤسسات تعليمية ومؤسسات تجنيد عسكري وغيرها- أو التنسيق مع تركيا التي تقدم نفسها على أنها الجهة المناسبة لضبط المنطقة، علما أن خيار الاعتماد على المجموعات الكردية يلقى معارضة روسيا وإيران وتركيا والنظام والعديد من دول المنطقة إن لم يكن كلها.
أما عن إيجابيات وسلبيات قرار الانسحاب من سوريا فيمكن تلخيص إيجابيات قرار الانسحاب (بالنسبة للولايات المتحدة) بالنقاط التالية:
- القرار سيحرر 2000 جندي أمريكي من النخبة وسيسمح بإعادتهم لمنازلهم أو للانتشار في مناطق أخرى.
- الانسحاب سيقلل بشكل كبير من خطر أن تجد الولايات المتحدة نفسها في صدام خطير وغير مخطط له مع القوى الأخرى المتواجدة في ساحة المعركة المزدحمة في سوريا.
- الانسحاب سيفسح المجال نحو تحسين العلاقات مع تركيا، التي تعد شريكًا شديد الأهمية في الاستراتيجية الأمنية الأمريكية للشرق الأوسط وأوروبا.
أما السلبيات المترتبة على القرار(بالنسبة للولايات المتحدة) فيمكن تلخيصها بـ:
- للانسحاب الأمريكي أثر سيء على الحملة ضد داعش، خصوصاً مع ضعف دور الميليشيا الكردية التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة طوال الفترة الماضية في القتال ضد داعش.
- يعطي الانسحاب الامريكي الفرصة لإيران لتوسيع نفوذها في سوريا.
- يعتبر الانسحاب الامريكي نصراً لروسيا ولبوتين، الذي سيحرص على ملئ الساحة لدى مغادرة الولايات المتحدة.
- يعتبر الانسحاب الأمريكي نقطة لصالح النظام في سوريا، الذي تقف الولايات المتحدة موقفاً سلبياً منه.
الانسحاب المفاجيء سيفقد الولايات المتحدة مصداقيتها لأنه سيترجم على أنها تخلت عن حلفائها الذين تعهدت مراراً وتكراراً بعدم التخلي عنهم.