تبعات المشاركة التركية في الصراع الليبي

مقدمة
بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي توصل الطرفان (تركيا و ليبيا) إلى توقيع مذكرتي تفاهم تتعلق بالتعاون العسكري والأمني، وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بالدولتين في البحر المتوسط ، وجاءت هذه المذكرتين رداً من تركيا على اتفاق تم توقيعه بين كل من (مصر، اليونان ، قبرص الجنوبية وإسرائيل) حُدِّدت من خلاله المناطق الاقتصادية الخالصة بهم . والدول الأخيرة عند توقيعها الاتفاقية لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح تركيا وقبرص الشمالية . بالإشارة إلى أن هذه المنطقة تحتوي على كميات كبيرة من الغاز والبترول كما أظهر المسح الجيولوجي الأمريكي. وفي 5 ديسمبر / كانون الأول الجاري صادق البرلمان التركي على المذكرتين ، وأقرتهما حكومة السراج في اليوم نفسه ، وتم أرسال المذكرتين إلى الأمم المتحدة لتسجيلهم واعتمادهم .
بتاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري طلب الرئيس التركي من البرلمان تفويضاً من أجل أرسال قوات لمساندة حكومة الوفاق التي يترأسها السراج . و بشكل أو fNovبأخر تستطيع أنقرة الحصول على تفويض بحكم أنَّ غالبية أعضاء البرلمان من الحزب الحاكم .
وفي تاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول الجاري ، صرح مسؤول من حكومة فايز السراج ، أن ليبيا طلبت رسمياً من تركيا الحصول على دعم عسكري بري وجوي وبحري، لمواجهة قوات خليفة حفتر قائد ما يسمى الجيش الوطني الليبي ، وكان هذا الطلب متوقعاً من حكومة السراج بعد التوقيع على مذكرات التفاهم ، التي كانت تحمل في سطورها البدء في التعاون العسكري والأمني .
منذ بدء الثورة الليبية، أصبحت ليبيا ساحة للصراع بين الدول الإقليمية والكبرى . وكان أخرها التدخل الروسي ومن بعدها التركي فضلاً عن وجود تدخل عربي وخاصة من مصر والإمارات العربية المتحدة.
وهنا نسعى للإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما هي مصالح الدول الإقليمية والدولية في ليبيا، التي تدفعها إلى التدخل عسكرياً ؟
- ما هي السيناريوهات المتوقعة بعد التدخل التركي؟
اولاً مصالح الدول الإقليمية والدولية في ليبيا
أصبحت ليبيا ساحة للصراعات الإقليمية ، بسبب إمكاناته الاقتصادية ، فضلاً عن اختلاف الأيديولوجيات بين أطراف الصراع ، البعض يقف في وجه الانتفاضات العربية، ويشجع القوى العسكرية المستبدة ، وطرف آخر يساند هذه الانتفاضات ويدعمها سياساً وعسكرياً .
تركيا: عززت علاقاتها مع حكومة الوفاق في طرابلس ، حيث تكمن المصالح التركية الاقتصادية الرئيسة. بتاريخ 8 أغسطس/ آب من العام الحالي قام وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو بزيارة إلى الجزائر ، أكد فيها على أهمية الجزائر، ودورها في حل الأزمة الليبية. وايضاً بتاريخ 25 ديسمبر / كانون الأول الجاري قام الرئيس التركي بزيارة مفاجئة الى تونس ناقش فيها مع الرئيس التونسي الخطوات المحتملة لتحقيق وقف لإطلاق النار في ليبيا. وبهذا استطاعت أنقرة حشد دعم دولتين مجاورتين في الجانب الشرقي من ليبيا ( تونس ، الجزائر ). وتسعى تركيا من تدخلها في ليبيا لتحقيق عدد من الأهداف وأهمها :
- تثبيت نقاط عسكرية ، مما يعطيها مجال أوسع في التحرك في حوض البحر المتوسط ، من أجل عمليات البحث والتنقيب عن البترول والغاز في حوض البحر المتوسط ، سيما أنها تستورد معظم احتياجاتها ، مما يجعلها بشكل أو بأخر محكومة من الدول المصدرة .
- رغبة الاستثمار في قطاع الطاقة ، حيث تمتلك ليبيا احتياطي كبير من البترول يقدر ب 48 مليار برميل .
- تعزيز نسبة مشاركة شركاتها في عملية إعادة الإعمار. وذلك انطلاقاً من تواجدها العسكري الذي سيوفر حماية لحكومة السراج المقربة منها . وقد وقعت سابقاً عقوداً في قطاع البناء بما يقدر بـ 19 مليار دولار .
- تعزيز استراتيجيتها في الانفتاح على الدول الافريقية ، حيث شهدت العلاقات بين تركيا والدول الافريقية انتعاشاً ملحوظاً . وتسعى لتحقيق مزيد من التبادل التجاري، من خلال استيراد المواد الأولية ، وتصدير السلع الجاهزة.
- التأكيد على الدور التركي الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .
مصر: بدأ التدخل المصري في ليبيا إلى جانب قوات حفتر عام 2014 ، وترجم هذا التدخل ببناء قاعدة عسكرية في ليبيا بمشاركة الإمارات العربية المتحدة . وينبع دعمها من مصالح أمنية وأيديولوجية . حفتر والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ينحدران من أيديولوجية عسكرية مشتركة، باعتبارها التهديد الوحيد للأحزاب الإسلامية . و تسعى للحفاظ على إمدادات البترول المدعوم من ليبيا ، الذي تعتمد عليه منذ حرب الخليج الأولى . مصر ترى أن هزيمتها في ليبيا ، هي خسارة لمصالحها الاقتصادية ، والأيديولوجية.
الإمارات: منذ انطلاق الانتفاضة في الدول العربية وضعت أبوظبي نفسها في طليعة الدول الإقليمية لمواجهة هذه الانتفاضات ، وخاصة أن هذه الانتفاضات أفرزت وصول أحزاب إسلامية سياسية إلى سدة الحكم . ووقفت إلى جانب مصر في محاربة الأحزاب الإسلامية، ودعم الشخصيات العسكرية الاستبدادية للوصول الى الحكم . وتنظر إلى ليبيا على أنها ساحة رئيسية في هذا الصراع .
كما دعمت أبو ظبي حفتر اعلامياً، عبر محطاتها التلفزيونية، والمواقع الإخبارية كآلة دعائية من أجل تعزيز صورته، وتوليد الدعم الشعبي، وتشويه صورة خصومه، وهو نفسه الدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في دعم حفتر مالياً واعلامياً. وتسعى الإمارات إلى تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة من عملية إعادة الإعمار في ليبيا .
روسيا: تسعى روسيا الى تثبيت نقاط عسكرية لها على ساحل البحر المتوسط ، مما يعزز موقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ويجعلها أكثر قدرة على المنافسة والمراوغة ضد حلف الناتو، الذي يعمل على تمكين الأنظمة الدفاعية لدول بحر البلطيق المتاخمة لها. تسعى موسكو أن يكون لها دور في التأثير على البترول الليبي، التي تعتمد عليها الدول الأوروبية كمصدر لتنويع مصادرها .
وقدمت روسيا الدعم السياسي لقوات حفتر عند استخدامها حق النقض الفيتو ضد اصدار بيان لمجلس الأمن الدولي يدين فيه عملياته على طرابلس. بالإضافة لدعمه مالياً عن طريق طباعة العملة الليبية في أراضيها .
تسعى روسيا للتدخل في ليبيا لتحقيق أقصى حد من الاستثمار. واستطاعت أن تكون حاسمة في نجاحات حفتر.
الولايات المتحدة الامريكية: لم يلحظ منها موقف واضح من الصراع في ليبيا . لكنها حققت مصالحها الأساسية، في مكافحة الإرهاب حين كان لها الدور الأبرز في ضرب داعش في مدينة سرت، بالإضافة لعدم تعطيل تصدير البترول إلى الأسواق الدولية. ولعبت أبو ظبي والقاهرة دوراً كبيراً لدعم حفتر في الولايات المتحدة الامريكية، وروجت تلك الدول له على أنه يحارب “مجموعات ارهابية” في طرابلس.
ثانياً: توسع دائرة الصرع
بعد طلب رسمي من حكومة الوفاق المعترف بها دولياً بتدخل القوات التركية (برياً، جوياً، بحرياً )، لتقديم الدعم لازم لها، سيُقابل هذا الطلب دعماً لقوات حفتر من قبل الإمارات العربية المتحدة ، مصر وفرنسا ، بالإضافة إلى الدعم الروسي، ومن شأن ذلك أن يخلق تصعيداً أكبر. لأن الأطراف المتصارعة ستسعى إلى تحقيق نصر عسكري .
ووفقاً لتقارير، قدمت أبو ظبي إلى قوات حفتر دعماً عسكرياً كبيراً ، حيث مدتهُ بطائرات عسكرية متطورة ، بالإضافة إلى الأسلحة والذخائر، ودعمته في بناء قواعد عسكرية، فضلاً عن محاولاتها السياسية في إسقاط الشرعية عن حكومة الوفاق. وبحسب تقارير، منعت أبو ظبي سيطرة حكومة الوفاق على الهلال النفطي، من خلال تكليفها لشركة يملكها “أريك برنس” بتشغيل سرب من الطائرات للحفاظ على التفوق الميداني لقوات حفتر . و حسب تقارير منتشرة على نطاق واسع، فإن روسيا تقدم مساعدات عسكرية إلى قوات حفتر، من خلال مستشارين عسكريين، إضافة إلى التدريب، و صيانة الأسلحة الروسية.
أما مصر قدمت دعماً سياسياً وعسكرياً، وتشارك إلى جانب قوات حفتر من خلال ضربات جوية على مواقع في طرابلس ، بالإضافة إلى الدعم العسكري اللوجستي من أسلحة وذخائر.
وهناك دعم فرنسي ( مالي، عسكري، إعلامي) لقوات حفتر. ولكن لا يوجد إجماع أوروبي لذلك الدعم، حيث أن الدول الأوروبية تدرك أنهُ من الممكن أن تتحول التدخلات الأجنبية في ليبيا إلى أزمة مستعصية يصعب حلها ، كما الوضع في سوريا.
ثالثاً: السيناريوهات المتوقعة
- سيناريو الصفقات
عند توقيع تركيا مذكرتي التفاهم مع ليبيا، أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن المذكرات “قد تعطل الاستعدادات لعقد اجتماع دولي حول تسوية ليبية من المقرر عقدها في برلين في وقت لاحق”. لكن من الممكن أن نشهد صفقات بين روسيا وتركيا، في الملف الليبي. على الرغم من وجود التباينات بين الطرفين. إلا أن العلاقات القائمة بين الطرفين تحكمها المنافع الاقتصادية المتبادلة . إذ أن روسيا تحتاج لتركيا من أجل تصدير الغاز إلى أوروبا، سيما بعد تدهور العلاقات مع أوكرانيا، التي كانت تمثل الجسر الذي تعبر منهُ خطوط الغاز إلى أوروبا . تركيا التي تسعى لتحقيق مكانة دولية، وحماية مصالحها في البحر المتوسط، سوف تضغط على روسيا أكثر في ليبيا، مما يحقق لها مجال أوسع للتمركز . لذلك من الممكن أن نشاهد سيناريو توافق تركي روسي.
- سيناريو العقوبات الاقتصادية والتصعيد العسكري
بهذا السيناريو: يتم فرض عقوبات اقتصادية من قبل دول الاتحاد الأوروبي، و الولايات المتحدة الأمريكية ، على أنقرة . من الممكن أن تسعى دول الاتحاد الأوروبي، القاهرة، أبو ظبي و الرياض في إقناع واشنطن بالضغط على أنقرة . لأن أي تصعيد في ليبيا سيؤدي لتهديد أمني لدول الاتحاد ، ستصبح أكثر عرضةً لعمليات الهجرة. والأهم من ذلك لمنع تأثر السوق الأوروبية للطاقة ، التي تعتمد بنسبة جيدة على البترول المستورد من ليبيا .
على الرغم من الدعم العسكري المقدم سابقاً من الدول الإقليمية والدولية الى أطراف الصراع المحلية، إلا أنهُ من المحتمل أن يكون الدعم العسكري في الأيام القادمة أكبر، وخاصة من الاطراف التي تدعم حفتر، لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، ويجبر حكومة الوفاق الجلوس على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة ، قبل انعقاد مؤتمر برلين، الذي تنظمه ألمانيا لاحتواء الازمة الليبية .
خلاصة
تشهد الساحة الليبية تزاحم لمصالح الدول الإقليمية والدولية، ويطفو على السطح المصالح الاقتصادية المتمثلة ، باحتياطات البترول و الغاز، وإعادة الاعمار، كمصالح مشتركة لجميع أطراف الصراع . ومن المحتمل أن نشهد تصعيد عسكري، بعد الطلب الرسمي من حكومة الوفاق -المعترف بها دولياً- من أنقرة للمشاركة في العمليات العسكرية ضد قوات حفتر. لأن التدخل التركي عسكرياً سيتبعه دعم أكبر لقوات حفتر من الأطراف الأخرى. هذا التصعيد سيوسع دائرة الصراع، و يقوض أي عملية سياسية ، و سيشكل تهديداً أمنياً على ليبيا ، ولجيرانها الإقليمين، مصر، تونس والجزائر . بالإضافة لنتائج سلبية على دول الاتحاد الأوربي، حيث ستصبح أكثر عرضة لعمليات الهجرة الغير شرعية، الأمر الذي سيدفعها إلى مزيد من التدخل، لحماية أمنها، وحماية التدفقات النفطية، التي من الممكن أن توُقف بسبب ارتفاع وتيرة الصراع .
و قد نشهد عقوبات اقتصادية من دول الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية على تركيا، وخاصةً أن أبوظبي ، القاهرة ٬ وباريس التي تسعى إلى دعم موقف خليفة حفتر سياسياً في امريكا. في المقابل قد نشهد صفقة بين الطرف التركي والروسي حماية لمصالحهم الاستراتيجية. إن تعزيز النفوذ التركي وتسارع التدخل الروسي سوف يسهم في أضعاف تأثير دول الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط .