تحليلات

اللجنة الدستوريّة السورية: التّشكيل وإشكاليات العَمَل

1. مقدمة

أعلن الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش في 23 أيلول/سبتمبر 2019 تشكيل لجنة دستوريّة لإقرار دستور جديد لسوريّة تضمّ ممثّلين عن النظام والمعارضة والمجتمع المدنيّ، على أمل أن تكون هذه خطوة باتجاه التوصل إلى حلٍّ سياسيٍّ في سوريا.

مطلب تعديل أو كتابة دستور جديد لم يكن من المطالب الشعبيّة التي نادى بها المتظاهرون ضدّ النظام في سوريا عندما انطلق الحراك مطلع 2011، إلا أنّ النخب السياسية المعارضة في سوريا طالبت عدة مرّات بتعديلات أساسيّة على الدستور السوريّ سواء دستور 1973 أو دستور 2012، وخصوصاً المادة الثامنة التي تنصّ على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع والمادّة الرابعة والثمانين التي تحدّد شروط وآلية الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة وتربط هذا المنصب بالقيادة القطريّة لحزب البعث. إلا أنّ كل دعوات تعديل الدستور السوري بما يلغي (أو يقلّل على الأقل) من احتكار السلطة بيد فئة أو عصبة في سوريا لم تنجح.

2. تاريخ الدساتير في سوريّة 

بدأ تشكيل دستور في سوريا منذ نهايات القرن التاسع عشر على يد العثمانيين، فاكتسبت النخب السورية ثقافة دستوريّة مكّنتها من وضع دساتير متعددة للبلاد في وقت لاحق، على مدار النصف الأوّل من القرن الماضي. ويقول المؤرخون إنّ أوّل وثيقة دستوريّة شهدتها سوريا هي الوثيقة التي أقرها العثمانيّون لولاية سوريّة  (سوريّة  في الجغرافيا الحالية) وذلك في حدود 1876. [1]

بعد استقلال سوريا عام 1920، تم وضع دستور الملك فيصل الذي عُمِلَ  به رسميّاً لمدة 15 يوماً فقط، تلا ذلك دستور مرحلة الانتداب (دستور 1928 الذي أعلن في 1930) ثم دساتير مرحلة الانقلابات (دستور 1950، دستور الشيشكلي 1952، دستور الوحدة مع مصر 1958، دستور الانفصال 1961)، ثم دساتير مرحلة البعث (دستور 1964، دستور 1966، دستور 1969، دستور 1971، دستور 1973)، ثم دستور 2012 الذي أقرّه بشار الأسد.[2]

تتركّز الفروق الأساسيّة بين هذه الدساتير حول الآتي: 

  1. المواد والفقرات التي تنصّ على استقلال سوريا وسيادتها. 
  2. النصّ على دين الدولة وعدمه. 
  3. النصّ على دين رئيس الدولة. 
  4. آليات وشروط الترشّح لرئاسة الدولة وشروط التمديد. 
  5. صلاحيّات رئيس الدولة. 
  6. شكل النظام السياسيّ في سوريّة.

ومن بين كل هذه الدساتير ينظَرُ عادةً بشكل خاص إلى كلٍّ من: دستور 1950 (الذي حاول المكلّفون بكتابته أن يحقق أرقى المعايير الممكنة في ذلك الوقت)، ودستور 1973 (الذي أقرّه حافظ الأسد ووصف بالدستور الدائم لسوريّة وكرّس من خلاله سيطرة البعث على السلطة)، ودستور 2012 الذي أُقِرّ في عهد بشار الأسد بعد انطلاق الحراك ضد في سوريا، حيثُ كان من المؤمّل أن يستجيب من خلاله لمطالب السوريين ولكنه لم يتضمّن التعديلات اللازمة لبلورة مشهدٍ سياسيٍّ جديد في البلاد (على العكس فقد حافظ على الموادّ التي ترسّخ سيطرة النظام والبعث على السلطة، ممّا حدا بالسوريين والمجتمعِ الدوليّ إلى اعتباره وثيقةً جديدةً من وثائق النظام نفسه وليس وثائق الدولة السوريّة، والتعامل معه على هذا الأساس).

3. الدستور السوريّ في سياق التوصل إلى حل في سوريّة 

ابتداءً من خطة النقاط الستّ التي وضعها كوفي عنان في 2012 (أول مبعوث خاص إلى سوريّة بعد انطلاق الحراك 2011)، مروراً بإعلان أو بيان جنيف 2012 والقرار رقم 2118 لمجلس الأمن، فإنّ ذكر الدستور وفكرة إقرار دستور جديد لسوريّة لم تكن تحظى بأولويّة كبيرة وأُشيرَ إليها كجزء أو كخطوة ضمن خطوات أساسيّة أخرى مثل تشكيل هيئة أو مجلس حكم ووقف القتال والعنف.

ثم بدأ فعليّاً الحديث عن كتابة دستور جديد لسوريّة  كمدخل للحلّ السياسيّ في عام 2015 خلال اجتماعات المجموعة الدولية لدعم سوريا في فيينّا، وصدور بياني فيينّا الأول (أكتوبر 2015) والثاني (14 نوفمبر 2015) اللذين تضمنا فكرة الفصل بين مسار مكافحة الإرهاب في سوريّة وبين الحلّ السياسيّ، وهو ما أدى (بطريقة ما) إلى اعتبار النظام طرفاً في جهود مكافحة الإرهاب، بدلاً من أن يكون المتّهم بالإرهاب. كما تضمّن كلا البيانين إشارةً واضحةً إلى أهمّيّة كتابة دستور جديد لسوريّة  كخطوة أساسيّة في الحلّ السياسيّ، بالإضافة إلى خطوة تشكيل حكم ذي مصداقيّة وغير طائفيّ، وخطوة إجراء انتخابات. تطوّر ذلك لاحقاً إلى حديثٍ عن تشكيل اللجنة الدستوريّة وإقرار دستور جديد لسوريّة كمدخل لمسار الحلّ السياسيّ في سوريّة ككل.

تمّ رسمياً اعتماد فكرة تشكيل اللجنة الدستوريّة في المؤتمر الذي دعت إليه روسيا وسمّته “مؤتمر الحوار الوطنيّ السوريّ” في سوتشي في 30 كانون الثاني/يناير 2018، وقُدِّر حضوره بعدة مئات معظمهم مندوبون عن النظام، بينما قاطعته الهيئة العليا للتفاوض التي تشكّلت في مؤتمر الرياض وتُمثِّل آخر تشكيلات المعارضة السوريّة، ولم يحضره إلا عدد قليل جداً من المعارضين السوريّين لم يكن معظمُهم ممثلين لكتل رئيسيّة في المعارضة.

في نهاية هذا المؤتمر صدر بيانٌ نصّ على التوافق بين المُجتَمعين على تشكيل “لجنةٍ دستوريّة لتقوم بعمليّة إصلاح دستوريّ”، كما نصّ على تضمين ما عُرِف بـ “المبادئ الاثني عشر الحيّة للأطراف السوريّة” التي أعلن عنها المبعوث الأمميّ ستيفان ديمستورا في وقت سابق. وبقيت عمليّة تشكيل هذه اللجنة بين شدّ وجذب لأكثر من عام وثمانية أشهر، منذ بداية 2018 وحتى سبتمبر 2019 حيث أُعلِنَ عن تشكيلها.

المفارقة هنا أنّ الشخصيّات أو الأطراف التي حضرت مؤتمر سوتشي، أو مؤتمر “الحوار الوطني السوري” كما أسمته موسكو، لم تكن هي من شكّل اللجنة الدستوريّة، بل إنّ عدداً منها ليس عضواً في اللجنة التي أُعلِنَ عنها، بينما أدارت هيئة التفاوض العليا التي رفضت المشاركة في مؤتمر سوتشي ووافقت على مخرجاته لاحقاً عمليّة تشكيل اللجنة الدستوريّة مع الأطراف الدوليّة والنظام، كما أنّ أعضاء اللجنة جميعاً رُشِّحوا من خلالها.

4. شكل اللجنة الدستوريّة وآليّات عملها

رغم أنّ إعلان إجراءات اللجنة وآليّات عملها تمّ من خلال رسالة القواعد الإجرائيّة لعمل اللجنة الدستورية التي وجّهها الأمين العام للأمم المتّحدة إلى مجلس الأمن في 26 سبتمبر 2019، إلّا أنّ شكل اللجنة الدستوريّة وعدد أعضائها تمّ التوافق عليه فعليّاً في محادثات أستانا (وليس الأمم المتّحدة) بين الدول الضامنة (تركيا، روسيا، إيران) من جهة، والمبعوث الدولي ستيفان ديمستورا من جهة أخرى، حيث جرى التوافق على أن تتكوّن اللجنة من 150 عضواً، بحيث ترشّح هيئة التفاوض العليا ثلثها في حين يرشّح النظام ثلثها الثاني، بينما يرشّح الوسيط الدوليّ (ديمستورا ثم بيدرسون) الثلث الأخير من شخصيّات سوريّة محايدة وخبراءَ وممثّلي المجتمع المدنيّ.

بالنظر إلى تصريحات الدول الضامنة (روسيا ، تركيّا ، إيران) وبحسب نصّ الرسالة التي وجّهها الأمين العامّ إلى مجلس الأمن بخصوص اللجنة الدستوريّة والقواعد الإجرائيّة التي تحكم عملها؛ فإنّ آليات عمل اللجنة تُلخّص في النقاط الآتية:

  • تتكوّن اللجنة من هيئتين: هيئة إقرار وهي الهيئة الموسّعة وتتكوّن من (150 عضوًا)، وهيئة صياغة تتكوّن من (45 عضوًا يتمّ اختيارهم من بين 150 عضواً).
  • تتّخذ كلا الهيئتين قراراتهما بالتصويت بأغلبية 75٪ من الأعضاء (113 صوتاً من أصل 150 أو 34 من أصل 45).
  • تُدارُ اللجنة من قبل رئيسين مشتركين أحدهما من وفد المعارضة والآخر من وفد النظام.
  •  يمكن للجنة أن تعمل على تعديل الدستور الحالي (دستور 2012) أو أن تقوم بكتابة دستور جديد.
  • تعقد اللجنة اجتماعاتها في جنيف بتيسير من الأمم المتحدة، ويقوم المبعوث الخاصّ بتيسير عمل اللجنة الدستوريّة من خلال مساعدة الرئيسين المشتركين وتقريب وجهات النظر وتحقيق التوافق بين الأعضاء.
  • تتضمّن القواعد الإجرائيّة نقطة خاصّة تنصّ على عدم خضوع أعضاء اللجنة الدستوريّة وأقاربهم والمنظّمات السياسيّة أو منظّمات المجتمع المدنيّ أو الكيانات التي ينتمون إليها لأيّ شكل من أشكال التهديد أو المضايقات، سواءً ضدّ الأشخاص أو من خلال القيام بأيِّ تهديداتٍ ضد ممتلكاتهم، بسبب ارتباطهم المباشر بعملهم في اللجنة الدستوريّة.
  • يتمّ عرض الدستور الذي ستقرّه هذه اللجنة للموافقة الشعبيّة.

5. تحدّيات وإشكاليّات اللجنة الدستوريّة

على الرغم من كلّ الجهود والوقت التي بُذِل لتشكيل اللجنة الدستوريّة والتوافق على أعضائها بين الأطراف، إلا أنّ عدداً من أعضائها قدّموا استقالتهم بعد أيّام قليلة من إعلان تشكيلها. كما أنّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريّة (أحد أبرز أطراف المعارضة السوريّة) أعلنت انسحابها من اللجنة ورفضت المشاركة فيها. كما أنّ بعض المناطق في سوريّة الواقعة تحت سيطرة المعارضة خرجت فيها مظاهرات ترفضُ القَبولَ باللجنة الدستوريّة، بينما أعربَ العديد من الشخصيات ورموز المعارضة والناشطين السوريّين عن رفضهم لهذا المسار.

تتنوّع أسباب استقالة بعض الأعضاء من اللجنة، فبعضها له علاقةٌ بمشروعيتها ومرجعيتها وبعضها لأسباب ترتبط بالأسس التي قامت عليها أو آليّات عملها أو تقديرا للمآلات التي يمكن أن تنتهي إليها أو لما يتربط بنزاهة بعض أعضائها أو تحكّم النظام بها.

ويمكن تلخيص التحدّيات التي تواجه عمل اللجنة والاعتراضات التي تُوَجّه إليها بالنقاط الآتية:

5.1 إشكاليّة المرجعيّة

تُعدُّ مرجعيّة اللجنة الدستوريّة والأساس القانونيّ لتشكيلها أحد أكبر الإشكالات التي يثيرها المعترضون على اللجنة الدستوريّة التي تم إقرارها فعلياً في مؤتمر الحوار الوطني الذي أُجريَ في سوتشي ورعته روسيا ودعت إليه، بينما تنصّ القرارات الدولية (مثل بيان جنيف و 2254) صراحةً على إجراءات معينة بتسلسل مختلف، ممّا يعني أنّ مرجعيّة اللجنة الدستوريّة في حقيقتها هي سوتشي وروسيا أو الدول الضامنة التي شاركت في محادثات أستانة وسوتشي، لا الأمم المتحدة التي لم تنصّ وثائقها وبياناتها على تشكيل اللجنة الدستوريّة كخطوة أساسيّة من خطوات الحلّ في سوريّة مقدَّمةٍ على غيرها من الخطوات، ناهيك عن اعتبارها مدخلًا للمضيّ في باقي الخطوات ومسار الحلّ السياسيّ ككل، وهو ما صرّح به النظام السوريّ عبر وزير خارجيّته مرة وعبر رئيس النظام بشار الأسد مرة أخرى.

لكن مرجعيّة اللجنة الدستوريّة تعاني من إشكالين رئيسيين. الأوّل: مسار الحلّ السياسيّ وسياق اللجنة الدستوريّة في هذا المسار، والثاني: دور رئيس النظام بشار الأسد في بعض نواحي الأساسيّة في عمل اللجنة مثل آليّة إقرار الدستور الذي ستكتبه هذه اللجنة.

5.2 الخروج عن المسار

كانت النقاط الستّة التي أعلنها كوفي عنان وتبنّتها الأمم المتّحدة في 2012 أولى الخطوات الدوليّة التي اقتُرِحَت  لحلحلة الوضع في سوريا، تلتها مجموعة من القرارات والبيانات أهمّها بيان جنيف وبيانَي فيينّا والقرار 2254، حيثُ يتبيّن أنّ كلّ بيانات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن التي تطرّقت للحلّ السياسيّ في سوريّة تحدّثت عن تسلسل واضح يبدأ بتشكيل هيئة أو مجلس حكم ذي صلاحيّات تنفيذيّة تقوم على إدارة شؤون الدولة، ثم تشكيل بيئة آمنة وكتابة دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، ثمّ إجراءُ الانتخابات.

أمّا ما يجري الآن عمليّاً فهو تقديمٌ لخطوة كتابة الدستور على باقي الخطوات، ممّا يؤدي إلى الاعتقاد بأنّ هذا سيؤدّي إلى اختزال كلّ الخطوات الأخرى في هذه الخطوة فقط، وأهمّها خطوة تشكيل البيئة الآمنة التي بدونها ستبقى سطوة الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة التابعة للنظام قائمة (وبالتالي فستبقى قدرة النظام ورئيس النظام على الإطاحة بمعارضيه والانتقام منهم قائمة).

5.3 إشكاليّة المدّة الزمنيّة

إحدى علامات الاستفهام الكبيرة على آلية عمل اللجنة الدستوريّة تتمثل في أنهُ لم يُنَصّ على مدّة زمنيّة محدّدة لإنهاء صياغة الدستور على الرغم من تحديد وإعلان آليات عملها وإجراءاتها، ممّا يجعل مدّة عملها مفتوحةً ويفتح المجال أمام المماطلة والتعطيل.

5.4 إشكاليّة التمثيل

حرص المبعوث الخاص بيدرسون (ومن قبله ديمستورا) على مشاركة المرأة في اللجنة الدستوريّة حيث تمثّل النساء 30٪ تقريباً من الأعضاء. إلا أنّ اللجنةَ في الوقتِ نفسه تفتقد إلى تمثيل بعض الشرائح الأساسيّة في سوريا، سواءً على المستوى المذهبي أو العرقي أو الجغرافيّ.

فاللجنة لا تضمّ تمثيلاً لجماعة الإخوان المسلمين إحدى أقدم التشكيلات المشاركة في الحياة السياسية في سوريّة. كما أنّ بعض المجموعات التي تتحدّث باسم المكون الكرديّ أبدت اعتراضها على عدم وجود تمثيل كرديّ في اللجنة أو على حجم هذا التمثيل. والأمر نفسه بالنسبة للتركمان والدروز والمكوّنات الأخرى. ويُلاحَظُ أنّ اللجنة لا تتضمّن أيّ رجل دين. كما أنّ هناك اعتراضات بخصوص التوزيع الجغرافيّ للأعضاء حيث ينتمي أغلبهم للمحافظات السورية الكبيرة مثل حلب ودمشق.

5.5 استمرار العمليّات العسكريّة

يُفترَضُ أن يشكِّل انطلاق العمليّة السياسيّة وتشكيل اللجنة الدستورية وقفًا للعمليّات العسكريّة والهجوم المستمرّ للروس والنظام على المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السوريّة. إلا أنّ الواقع يشير إلى أنّ إطلاق عملِ اللجنة الدستورية جاء مساراً موازيًا لمسار العمليّات العسكريّة وليس بديلاً عنه أو معطلاً له، خاصّةً أنّ النظام وداعميه من الروس والإيرانيين يسوّغون هذه الهجمات بأنّها تأتي في إطار محاربة الإرهاب، وهو ما تبلور في عام 2015 في بياني فيينّا كما تم التوضيح أعلاه.

5.6 استمرار مشكلة المعتقلين والمختفين قسريًّا

تطالب الهيئات الدوليّة النظام بالإفراج عن حوالي 128 ألف معتقل (يتمّ احتجازهم في ظروف غاية في السوء)، إضافة إلى السماح للجهات واللجان الدوليّة بالتواصل معهم وزيارة أماكن احتجازهم، حيثُ يعَدّ هذا أحد المطالب الأساسيّة للحراك في سوريّة وأحد البنود الدائمة على جلسات وقرارات وبيانات مجلس الأمن والأمم المتحدة ومؤتمرات وبيانات المعارضة السورية. لذلك كان يُتوقّع ألا يتمّ الجلوس إلى جهة مدعومة من قبل النظام أو تمثّل النظام قبل تقرير مصير هؤلاء وضمان الإفراج عنهم، وهو ما لم يحصل. إنما تمّ المضيُّ في تشكيل اللجنة الدستوريّة وبَدْء أعمالها دونَ ربطها بالتقدّم في العمليّة السياسيّة التي تشمل الإفراج عنهم أو حصول تقدّم في ملفّهم.

5.7 إشكالية استمرار النظام شريكا في كتابة الدستور

بالرغم من أن الشعارات الأولى التي رُفعت في مظاهرات الحراك ضد بشار الأسد ونظامه في سوريا لم تكن تنادي برحيل النظام وإنّما بإصلاحه، إلّا أن ذلك لم يستمرّ سوى بضعة أيام، قبل أن يواجه النظام هذا الحراك بالحلّ الأمنيّ ليتصدّر شعار رحيل النظام مبادئ الحراك، ويصبح رمز الانخراط في الحراك ضد بشار الأسد ونظامه. حتى أنّ بعض مجموعات المعارضة أو من تعتبر نفسها من المعارضة التي حاولت الالتفاف على هذا الطرح لسبب أو لآخر لم تجد لنفسها في السنوات الأولى للحراك على الأقل موطئ قدم بين باقي مجموعات المعارضة المسلّحة أو السياسيّة منها.

ويمكن تتبع هذا بسهولة في المؤتمرات والتشكيلات الأولى للمعارضة السوريّة التي اعتمدت “مبدأ” رحيل النظام ومن تلطّخت أيديهم بدماء السوريين كأحد المبادئ الأساسيّة التي تجتمع عليها وتعمل وفقها. وتمّ النص على هذه العبارة في أدبيّات المجلس الوطنيّ و الائتلافِ الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة ومعظم بيانات وأدبيّات تشكيل المجموعات والتنسيقيّات وقوى الثورة والفصائل السوريّة.

في المقابل فإنّ المآلات المتوقّعة للمسار السياسيّ الذي يتمّ المضيّ فيه اليوم من بوّابة الدستور واللجنة الدستوريّة لايبدو أنها تميل نحو تحقيق هذا المبدأ (أي مبدأ رحيل النظام). على العكس يبدو أنّ العمليّة بشكلها الحالي تضفي نوعاً من الشرعيّة على النظام وتؤسّس للشراكة معه في العمليّة السياسيّة وبالتالي سيكون جزءاً من المرحلة القادمة، عدا عن احتماليّة بقاء بشار الأسد نفسه في السلطة وليس نظامه ومنظومته الأمنيّة فقط.

5.8 إشكالية الموافقة العموميّة

بحسب ما ذكرت نصوصُ تشكيل اللجنة الدستوريّة والقواعد الإجرائيّة لعملها فإنّ الدستور الذي سيتمّ كتابته وإقراره في اللجنة الدستوريّة يجب أن يُعرَض على “الموافقة العموميّة”، وهو ما فُسّر بالاستفتاء الشعبيّ وأكّدت ذلك تصريحاتُ رئيس هيئة التفاوض نصر الحريريّ.

إنّ الإشكال في هذه النقطة يتعلّق بكيفيّة إجراء استفتاء شعبيّ في سوريّة دون توفُّر بيئة آمنة!  يتبادر السؤالُ: كيف يمكن إجراء استفتاء شعبيّ في مناطق سيطرة النظام الذي لازال يبسط سطوته الأمنيّة على تحرّكات المواطنين وخياراتهم ويمنعهم من التعبير عن آرائهم؟ 

في المقابلكيف يمكن إجراء استفتاء شعبي في مناطق سيطرة المعارضة وهذه المناطق تعاني من القصف اليوميّ والعمليّات العسكريّة المستمرّة والمواجهات والاشتباكات؟ كما يقع بعضها تحت سيطرة فصائل لا تسمح عادةً بممارسة هذا النوع من الإجراءات مثل المناطق الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام التي تتمسّك باستراتيجيّة المفاصلة الكاملة مع النظام ومع أيّ شيء يشارك به النظام أو يكون جزءاً منه.

5.9 إشكالية الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة في سوريّة عام 2021

من المفترَض أن تجري في سوريّةَ انتخاباتٌ برلمانيّة في نهاية 2020 ورئاسيّة في 2021. هذه الانتخابات تجري منذ 2012 وفق دستور 2012 وعادةً تقاطعها المعارضة ولا تلتفت لها أصلاً، وينظر لها على أنها خطوة شكليّة.

من المفترض أن يمهد الإعلان عن لجنة دستورية وانطلاق أعمالها لتشكيل بيئة آمنة وانتخابات وغير ذلك من أسس الحلّ السياسيّ في سوريّة، ومن المفترَض أن يلغيَ هذا المسارُ المسارَ الآخر الذي يتضمّن قيام النظام بإجراء انتخابات وفق دستور 2012 ستفضي بشكل أكيد إلى تثبيته حتى عام 2028 على الأقل.

6. الخلاصة

ليس مفاجئا أن يلقى إعلان تشكيل اللجنة الدستوريّة ترحيباً دوليّاً وحتى سوريّاً وهي الخطوة التي استغرقت أكثر من عام ونصف من المحادثات والجولات والشدّ والجذب. ولكنّ ما يبعث على الصدمة أن تأتي هذه الخطوة ذات الأهمّيّة البالغة للمجتمع الدوليّ (بعد كل هذه الجهود والسنين من المواجهات وانقلاب الموازين بين مختلف الأطراف في سوريّة) في سياقٍ مختلف عن كلّ التوقّعات، وتأتي معبَّأة بكلّ الاحتمالات السلبيّة السيّئة من بقاء بشار الأسد المتّهم باستخدام السلاح الكيمياوي ضدّ الشعب السوريّ إلى بقاء النظام وأجهزته الأمنيّة والعسكريّة واستمرار سطوتها على الدولة والمجتمع.

لقد فقدت هذه الخطوة الكثير من زخمها عندما تم اقتراحُها كمسألة “تقنيّة” بمعزل عن كل المشكلات التي تعانيها الساحة السورية فباتت مسارًا موازيًا لا يشترط إنهاء أو تجميد المسارات والتحركات الأخرى التي لا تتّسق معه بأي شكل من الأشكال.

لقد شهدت سوريا بالتوازي مع كل عمليات التحول السياسي التي جرت فيها في المئة عام الأخيرة أكثر من 12 دستوراً، جاء بعضها في ظروف خاصة مثل دستور 1950، وصِيغَ بعضُها الآخر لخدمة أجندات مُعيّنة مثل دستور 1973 ودستور 2012 اللّذَين أُقِرّا لتثبيت حكم البعث وآل الأسد.

عند انطلاق الحراك ضدّ النظام في سوريّة 2011 وبَدْء تحرّكات المجتمع الدوليّ للتدخل في المسألة السورية، لم تكن جهود المجتمع الدولي منصبّة على الدستور ولم يكن هناك ما يشير إلى الاعتقاد بأن كتابة دستور جديد لسوريّة يمكن أن يكون المدخل للحلّ السياسيّ في سوريّة.

مع تصاعُد وتيرة الأحداث في سوريا وتعقّد الوضع، بدأت تحالفات ومجموعات عمل دوليّة وإقليميّة تتشكّل على هامش تبعات وارتدادات المسألة السوريّة، وبدأت هذه المجموعات والتحالفات محاولات فرضِ حلٍّ من نوع ما في سوريّة. ومن هنا بدأت تطفو فكرة اللجنة الدستوريّة أكثر فأكثر وصولاً إلى تحوُّلها إلى مرتَكَز أساسيٍّ في عمل المجتمع الدوليّ والشغل الشاغل للمعارضة والنظام.

وبالرغم من الدعم الدولي الذي حظي به مشروع اللجنة الدستوريّة فإنّ ظروف تشكيلها تخلّلها العديد من التعقيدات والمماطلات.

حتى بعد إعلان تشكيل هذه اللجنة وبدء أعمالها، فإنّ العديد من العقبات والإشكاليّات لا تزال تعترض طريقها، مثل الجدولة الزمنيّة لعملها والمآلات المحتملة للمضيّ بالمسار السياسيّ من خلالها، واستمرار الأعمال العسكريّة والاشتباكات بالتوازي مع اجتماعاتها، وتقاطع عملها مع مسارات أخرى يقوم بها النظام من طرفه (انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة)، وغيرها من التحدّيات التي بدأت تُلقي بظلالها بالفعل على مجريات عمل اللجنة وأدّت إلى استقالة بعض أعضائها قبل انعقاد الاجتماع الأوّل لها.

لاشكّ أنّ بعض هذه التحدّيات أو الإشكاليّات سيتمّ تجاوزها بشكل ما مع التقدّم الذي يتمّ في عمل اللجنة ولا شكّ أن بعض هذه التحدّيات والإشكاليّات ليست أكثر من أسئلة لم تظهر إجاباتها بعد. إلا أنّه لا شكّ أيضاً في أن هناك عقبات حقيقيّة معقّدة أمام عمل هذه اللجنة، وأنّ مقومات الحلّ السوريّ الشامل ليست متوفّرة بعد، وأنّ عمليّة ما يجري من تجزئة للحلّ في سوريّة (بقدر ما يمكن اعتباره نوعًا من الالتفاف على حالة التأزم القائمة في المسألة السورية) تفتح الباب أمام التنازل عن عناصر أساسيّة لاستدامة الحلّ مثل محاسبة المجرمين وتحقيق العدالة للضحايا، وقيادة سوريّة الجديدة بواسطة من يمثّلها ويُمثّل قيم ومكوّنات شعبها فعلاً.

مراجع


[1] سوريا العثمانية وأسرارها: محمد الأرناؤوط، العربي الجديد، 12\4\2015، https://goo.gl/nKQWms

[2] الدساتير المتعاقبة في سورية.. تحليل ومقارنة، مركز إدراك للدراسات والاستشارات، www.idraksy.net/constitutions-in-syria

مركز الأناضول لدراسات الشرق الأدنى

مركز الأناضول لدراسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: